قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إستعراض تجربة الفصل بين السلطات

إستعراض تجربة الفصل بين السلطات 
الفصل بين السلطات

من المؤكد أن مبدأ الفصل بين السلطات قد غدا منذ الثورة الفرنسية أحد المبادىء الدستورية الأساسية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الغربية بوجه عام،حيث يحتم هذا المبدأ قيام حكومة نيابية لأنه لا يسود إلا في ظل النظام النيابي،وذلك حتى تتضح فيه الضرورة إلى توزيع السلطات.
 
وينسب أصل هذا المبدأ إلى الفلسفة السياسية للقرن الثامن عشر،حيث ظهر في ذلك الوقت كسلاح من أسلحة الكفاح ضد الحكومات المطلقة التي كانت تعمد إلى تركيز جميع السلطات بين يديها،كما وكان أيضا وسيلة للتخلص من إستبداد الملوك وسلطتهم المطلقة.


وتتلخص الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الفصل بين السلطات في ضرورة توزيع وظائف الحكم الرئيسية : التشريعية والتنفيذية والقضائية على هيئات منفصلة ومتساوية تستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها،حتى لا تتركز السلطة في يد واحدة فتسيء إستعمالها وتستبد بالمحكومين إستبداداً ينتهي بالقضاء على حياة الأفراد وحقوقهم.

وإذا كانت تلك الفكرة هي جوهر مبدأ الفصل بين السلطات،فإن هذا المبدأ ليس معناه إقامة سياج مادي يفصل فصلاً تاماً بين سلطات الحكم ويحول دون مباشرة كل منها لوظيفتها بحجة المساس بالأخرى،ولكن مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات هو أن يكون بين السلطات الثلاث تعاون وأن يكون لكل منها رقابة على الأخرى في نطاق إختصاصها،بحيث يكون نظام الحكم قائماً على أساس أن (السلطة تَحُدّ أو توقف السلطة)،فيؤدي ذلك إلى تحقيق حريات الأفراد وضمان حقوقهم وإحترام القوانين وحسن تطبيقها تطبيقاً عادلاً وسليماً،وهذا ما يتفق وحكمة الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات التي هي تحقيق التوازن والتعاون بين السلطات وتوفير الحياد لكل منها في مجال إختصاصها.

فمبدأ الفصل بين السلطات التشريعيه والتنفيذيه والقضائيه يخدم فكرة التخصص ويرسي سيادة القانون،وهو من أهم الشروط لبناء مجتمع ديمقراطيّ،حيث يحول الفصل دون جمعها وتركيزها في يد فئه أو مجموعه من الأفراد.



أولا: السلطة التشريعية

وهي في النظام الديمقراطي سلطة منتخبة مباشرة من الشعب وتعبر عن إرادته،ومهمتها هي سن القوانين والتشريعات التي تنظم حياة المجتمع،وهي تسمى بتسميات مختلفة مثل: البرلمان، مجلس النواب، مجلس الشعب، المجلس التشريعي... إلخ من التسميات التي تختلف من دولة إلى أخرى،وهذه السلطة مهمتها أيجاد ظروف إجتماعية وإقتصادية وحضارية تضمن كرامة الإنسان وتصون حقوقه من خلال القوانين التي تسنها،وعادة ما يتمتع أعضاء هذه السلطة بالحصانة البرلمانية التي توفر لهم الحماية والحصانة من قمع السلطة التنفيذية. 

ثانيا: السلطة التنفيذية

وهي الحكومة وجميع الأجهزة والمؤسسات المتفرعة عنها أو التابعة لها،ومهمتها تنفيذ القوانين والتشريعات التي تشرعها السلطة التشريعية وادارة أمور الدولة والمواطنين وفقها،بحيث توفر الأمن والنظام لكل المواطنين،وتخضع هذه السلطة في النظام الديمقراطي لرقابة السلطة التشريعية وتكون مسؤولة أمامها عن وضع الخطط  والإجراءات الكفيلة بتطبيق القوانين بما يضمن مصلحة الدولة والمواطنين،كما وهناك عدة أشكال من هذه السلطة التنفيذية،ففي النظام الرئاسي يتم إنتخاب الرئيس وهو رئيس السلطة التنفيذية،وبدوره يقوم بإختيار وزراء حكومته وعرضها على السلطة التشريعية لنيل الثقة،بينما في النظام البرلماني يجري تشكيل الوزارة من قبل حزب الأكثرية في البرلمان أو من خلال إئتلاف مجموعة من الأحزاب فيما بينها بحيث تضمن الأكثرية داخل البرلمان. 

ثالثا: السلطة القضائية

ومهمتها الأساسية هي الحكم في المنازعات بين مختلف الجهات،وكذلك تفسير القوانين والحكم فيها وضمان تنفيذها من قبل مختلف الجهات داخل المجتمع،كما تعمل على منع إنتهاك حقوق الأفراد من قبل أي أفراد آخرين أو من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية وتحقيق مبدأ سيادة القانون،وتشمل هذه السلطة جميع أنواع المحاكم في الدولة مثل محكمة الصلح، البداية، المحاكم المركزية، محاكم الإستئناف، محكمة العدل العليا،كما ويتمتع أعضاء هذه السلطة في النظام الديمقراطي بحماية دستورية خوفا من تعرضهم لضغوط ونفوذ السلطات التشريعية أو التنفيذية،بحيث يجب أن يتم حمايتهم من تأثير أية قوة أو سلطة عدا سلطة القانون. 

ومن هنا فإننا نلاحظ أنّ فصل السلطات يؤدي إلى توزيع الصلاحيات والأدوار بين هذه السلطات،والذي يؤدي بدوره إلى تسهيل عملية إدارة أمور المجتمع والدولة في مختلف جوانب الحياة،وذلك ضمن إطار الديمقراطية التي تتيح لكل الأفراد والمؤسسات المشاركة والمساهمة في عملية إتخاذ القرار في كل المجالات،وفي ظل سيادة القانون الذي يخضع له جميع المواطنين على إختلافهم،وهم جميعا متساوون أمامه،لهذا فإن فصل السلطات يؤدي إلى حالة التوازن الضرورية لإستقرار الدولة،وفي نفس الوقت فإن ذلك لا يعني فصلا تاما بين السلطات الثلاث،وإنما يعني أن هناك تداخلا وتشابكا وتكاملا في الوظائف والصلاحيات بما يخدم المجتمع والمواطنين ويؤمن لهم مصالحهم وحقوقهم،
وتبين أغلب الأدبيات السياسية أن مبدأ الفصل بين السلطات قد جاء في كتاب”روح القوانين “ 1778 للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو كنسق أساسي لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة ومنع إحتكار السلطة،كما وتعود جذور هذا المبدأ إلى الفكر السياسي الاغريقي،فقد بيّن أفلاطون أن وظائف الدولة يجب أن تتوزع بين هيئات متعددة ومختلفة،وذلك مع إقامة التوازن والتمايز في الوظائف بين هذه الهيئات حتى لا تنفرد إحدها بالحكم.

في حين يعد أرسطو المؤسس الأول الذي قام عليه مبدأ الفصل والتمايز بين السلطات،حيث قسم وظائف الدولة إلى ثلاث”المداولة، الامر، العدالة“ وأن تتولى كل وظيفة هيئة او مجلس مستقل عن الآخر فضلا عن قيام التعاون بينها جميعا لتحقيق قدرة الدولة على ضبط مسارات المجتمع،أما في عصر التنوير الاوروبي فقد ظهر مبدأ الفصل والتمايز بين السلطات في كتاب لوك

(1632- 1704) حول الحكومة المدنية،حيث حدد لوك أن إعطاء سلطتين مزدوجة لوضع القوانين وتنفيذها يمنح إغراءات للأشخاص لتجاوز سلطتهم نظرا للطبيعة البشرية المؤسسة على الطغيان،ومن هنا حدد ضرورة الفصل (فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية)،وهكذا أصبح كتاب جون لوك إنجيل الثورة الإنجليزية 1688 والتي أدت إلى إعلان وثيقة الحقوق سنة 1689،ولم يهتم جون لوك بالسلطة القضائية ولم يحدد إستقلالها،وذلك لأن القضاة كان يتم تعينهم وعزلهم من قبل الملك،أما بعد الثورة فقد تم تعيينهم من قبل البرلمان ولكنهم لم يحققوا الإستقلالية في المجال الوظيفي.

أما مونتسكيو فقد عالج مسألة الفصل والتميز الوظيفي بين السلطات في مؤلفه الكبير”روح القوانين “ 1748 فضلا عن إستقلالية كل منها عن الأخرى،وذلك بوصفه الضمان الحقيقي للحفاظ على أسس الدولة الحديثة ولضمان الحريات المدنية والإبتعاد عن إحتكار السلطة التنفيذية للدولة،لأن ذلك سيؤدي إلى إحلال الإستبداد وإلى طغيان الدكتاتورية،ويعتمد إستقلال وتمايز الدولة على التوزيع المتوازن للسلطة بين السلطات (السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية) وفق الإختصاصات الوظيفية التي يحددها العقد الاجتماعي،وذلك  بتحديد المهام والوظائف الأساسية التي تضطلع بها كل سلطة،فضلا عن ذلك توزيع السلطات وفصلها لمنع الإحتكار ومراقبة متبادلة بقيام كل سلطة بمراقبة السلطات الاخرى.

ويرى د. حسن حنفي أن النظم السياسية بصرف النظر عن توجهها الأيديولوجي تحدد أولوية السلطة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية وإستقلالها عنهما،لأنها تمثل العدل وهي التي تفصل بينهما في حالة النزاع،وكذلك من مهماتها تفسير القوانين والحكم فيها وضمان تنفيذها من قبل مختلف الجهات داخل المجتمع،كما تعمل السلطة القضائية على منع إنتهاك حقوق الأفراد من قبل أفراد أخرين أو من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية،كما تعمل على تحقيق مبدأ سيادة القانون،وتشمل هذه السلطة جميع أنواع المحاكم في الدولة (محاكم الصلح، البدء، المحاكم المركزية، محاكم الإستئناف) ويتمتع أعضاء هذه السلطة في الانظمة الحديثة بحماية دستورية،أما السلطة التشريعية فوظيفتها سن القوانين ووضع الدساتير وتنظيم علاقات الناس والمجتمع وهي بذلك تعبر عن الإرادة العامة،أما السلطة التنفيذية فهي التي تمثل الحكومة وجميع الأجهزة والمؤسسات المتفرعة عنها أو التابعة لها،ووظيفتها تنفيذ القوانين والتشريعات التي تشرعها السلطة التشريعية وإدارة أمور الدولة والمواطنين .

وقد بين جون جاك روسو في العقد الاجتماعي أن هذا الفصل والتمايز يؤدي إلى توزيع الصلاحيات والأدوار بين مجموعة السلطات،كما ويسهل عملية إدارة أمور المجتمع والدولة في مختلف جوانب الحياة،مما يتيح لكل الأفراد والمؤسسات والجماعات المساهمة في إتخاذ القرار،كما وقد بين ألان تورين أن أهمية الفصل بين السلطات التشريعية، القضائية، التنفيذية، يحقق مجموعة من الأنساق المعرفية وهي :

1- التخصص في العمل وذلك  بتحديد وظائف السلطات ومجال عملها وإتقان الأدوار.
2- تطبيق القانون بشكل متوازن.
3- يؤدي إلى التوازن بين مختلف السلطات فضلا عن توازن المجتمع البشري.
4- ظهور الرقابة المتبادلة في عمل السلطات والأجهزة المختلفة في الدولة.
5- ظهور آليات من التكامل في ظل تقاسم العمل والوظائف والتخصصات.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart