قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

قصة سيدنا سليمان عليه السلام

قصة سيدنا سليمان عليه السلام
سيدنا سليمان عليه السلام آتاه الله العلم والحكمة وعلمه منطق الطير والحيوانات وسخر له الرياح والجن،كما قال تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورثه في النبوة والملك وليس المقصود وراثته في المال،لأن الأنبياء لا يورثون أموالهم إنما تكون أموالهم صدقة من بعدهم للفقراء والمحتاجين ولا يخصون بها أقربائهم،حيث قال نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء لا نورث".
ولقد آتى الله سليمان –عليه السلام- ملكا عظيما،لم يؤته أحدا من قبله ولن يعطه لأحد من بعده إلى يوم القيامة،وذلك أن الله تعالى إستجاب لدعوة سليمان،حيث قال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} لهذا سخّر الله لسيدنا سليمان أمرا لم يسخره لأحد من قبله ولا بعده،فقد سخر الله له (الجن) فكان لديه –عليه السلام- القدرة على حبس الجن الذين لا يطيعون أمره،وتقييدهم بالسلاسل وتعذيبهم،كما كان من يعصي سيدنا سليمان منهم يعذبه الله تعالى،لذلك كانوا يستجيبون لكل أوامره،فيبنون له القصور والتماثيل -التي كانت مباحة في شرعهم- والأواني والقدور الضخمة جدا،والتي لا يمكن تحريكها من ضخامتها،كما كانت تغوص له في أعماق البحار وتستخرج اللؤلؤ والمرجان والياقوت.
كما سخر الله لسليمان –عليه السلام- الريح،فكانت تجري بأمره،حيث كان يستخدمها في الحرب،وذلك بأن يأمر الجيش والذي كان مكون من البشر والجن والطيور والتي كان يعرف لغتها بأن تركب على بساط خشبي ضخم جدا،ثم يأمر بعدها الريح بأن ترفع هذا البساط وتنقلهم للمكان المطلوب،فكان بذلك يصل في سرعة خارقة إلى وجهته،ومن نعم الله تعالى أيضا على سيدنا سليمان هي إسالة النحاس له والذي إستفاد منه فائدة عظيمة في الحرب والسلم،وذلك كما أنعم على والده داوود بأن ألان له الحديد وعلمه كيف يصهره.
ولقد كان سيدنا سليمان - عليه السلام - يحب الخيل كثيرا،خصوصا ما يسمى (بالصافنات) وهي من أجود أنواع الخيول وأسرعها،وفي يوم من الأيام بدأ إستعراض هذه الخيول أمام سليمان عصرا،وتذكر بعد الروايات أن عددها كان أكثر من عشرين ألف جواد،فأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها،وطال الإستعراض فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى حتى غابت الشمس،فإنتبه لذلك وأنّب نفسه كثيرا لأن حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه،فأمر بإرجاع الخيول له،حيث قال تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} وجاءت هنا روايتان،الرواية الأولى تقول أنه أخذ السيف وبدأ بضربها على رقابها وأرجلها حتى لا ينشغل بها مرة أخرى عن ذكر الله،أما الرواية الثانية تقول أنه كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل،بحيث كان يمسحها ليعرف السقيم من الصحيح منها لأنه كان يعدّها للجهاد في سبيل الله،والله أعلم.
ورغم كل هذه النعم العظيمة والمنح الخاصة،إلاّ أن الله تعالى فتن سيدنا سليمان وإختبره وإمتحنه،والفتنة إمتحان دائم وكلما كان العبد عظيما كان إمتحانه عظيما،ولقد إختلف المفسرون في فتنة سليمان عليه السلام،ولعل أشهر رواية عن هذه الفتنة هي نفسها أكذب رواية،حيث قيل إن سيدنا سليمان عزم على الطواف على نسائه السبعمائة في ليلة واحدة حتى تلد كل إمرأة منهن ولدا يجاهد في سبيل الله،ولم يقل سليمان عندئذ إن شاء الله،فلم تلد منهن غير إمرأة واحدة،بحيث ولدت طفلا مشوها ألقوه على كرسيه،وهذه القصة مختلقة من بدايتها لنهايتها وهي من الإسرائيليات الخرافية.
وحقيقة هذه الفتنة هي ما ذكره الفخر الرازي حيث قال: إن سليمان إبتلي بمرض شديد،حار فيه أطباء الإنس والجن،كما وأحضرت له الطيور أعشابا طبية من أطراف الأرض إلاّ أن ذلك لم يجدي نفعا،وكل يوم كان المرض يزيد عليه حتى أصبح سليمان إذا جلس على كرسيه كأنه جسد بلا روح (كأنه ميت من كثرة الإعياء والمرض) وإستمر هذا المرض فترة،حيث كان سليمان فيها لا يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء منه وإستغفاره وحبه،ولكن بعد فترة إنتهى إمتحان الله تعالى لعبده سليمان وشفي وعادت إليه صحته بعد أن عرف أن كل مجده وكل ملكه وكل عظمته لا تستطيع أن تحمل إليه الشفاء إلا إذا أراد ذلك الله سبحانه،وهذا هو الرأي الذي نرتاح إليه ونراه لائقا بعصمة نبي حكيم وكريم كسليمان.
كما ويذكر لنا القرآن الكريم مواقف عدة،تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلام- ومقدرته الفائقة على إستنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضة عليه،ومن هذه القصص ما حدث في زمن داود –عليه السلام- حيث قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ،فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فقد جلس سيدنا داوود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم،وجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل آخر،فقال له صاحب الحقل: سيدي النبي،إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل،وأكلت كل عناقيد العنب التي كانت فيه،وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض،فقال داوود لصاحب الغنم: هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل ؟ قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي،فقال داوود: لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي أكلته،فقال سليمان (وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده): عندي حكم آخر يا أبي،قال داوود: قله يا سليمان،فقال سليمان: أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم،ويصلحه له ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب،وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها ويأكل منه،فإذا كبرت عناقيد العنب وعاد الحقل سليما كما كان،أخذ صاحب الحقل حقله وأعطى صاحب الغنم غنمه،قال داوود: هذا حكم عظيم يا سليمان،الحمد لله الذي وهبك الحكمة.
ومنها ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا،فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ،وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ،فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاووُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُودَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ،فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا،فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا،فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى،وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.
كما ويذكر لنا القرآن الكريم قصة عجيبة أخرى،حيث قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ،حَـتَّى إِذا أتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ،فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ويقول العلماء هنا ما أعقلها من نملة وما أفصحها،فحين قالت:(يَا) نادت،(أَيُّهَا) نبّهت،(ادْخُلُوا) أمرت،(لَا يَحْطِمَنَّكُمْ) نهت،(سُلَيْمَانُ) خصّت،(وَجُنُودُهُ) عمّت،(وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إعتذرت،فعندما سمع سيدنا سليمان كلام النملة تبسم ضاحكا من قولها،فرغم كل عظمته وجيشه فإنه رحيم بالنمل،بحيث أنه يسمع همس النمل وينظر دائما أمامه حتى لا يدوسه،ولهذا كان سليمان يشكر الله تعالى أن منحه هذه النعمة،نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق.
ولعل أشهر قصة عن سليمان –عليه السلام- هي قصته مع بلقيس ملكة سبأ،حيث جاء يوم وأصدر سليمان أمرا لجيشه أن يستعد،وبعدها خرج سيدنا سليمان يتفقد الجيش ويستعرضه ويفتش عليه،لكنه إكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش،فغضب وقرر تعذيبه أو قتله،إلاّ إن كان لديه عذر قوي منعه من القدوم.
وعندما جاء الهدهد وقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلام-حيث قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} وأنظروا كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك في الأرض،بلا إحساس بالذل أو المهانة،وليس كما يفعل ملوك اليوم،حيث لا يتكلم معهم أحد إلاّ ويجب أن تكون علامات الذل ظاهرة عليه،فقال الهدهد أني أعلم منك بقضية معينة،فلقد جئت بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن،حيث قال تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً} أي بلقيس {تَمْلِكُهُمْ} أي تحكمهم {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي أعطاها الله قوة وملكا عظيمين وسخّر لها أشياء كثيرة {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي كرسي الحكم عندها ضخم جدا ومرصّع بالجواهر {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} أي أنهم يعبدون الشمس {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي أضلهم الشيطان {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ،أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقد ذكر عرش الله سبحانه وتعالى هنا لأنه ذكر عرش بلقيس من قبل،وذلك حتى لا يغترّ إنسان بعرشها.
وهنا تعجب سيدنا سليمان من كلام الهدهد،حيث لم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلاد،كما وتعجب من أن قوما لديهم كل شيء ويسجدون للشمس بالإضافة إلى تعجبه من عرشها العظيم،إلاّ أنه لم يصدق الهدهد ولم يكذبه،حيث قال تعالى: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وهذا منتهى العدل والحكمة،ثم كتب كتابا وأعطاه للهدهد،حيث قال تعالى: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي ألقي هذا الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد بحيث تستطيع سماع ردهم عليه.
ويختصر السياق القرآني في سورة النمل ما كان من أمر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة،وينتقل مباشرة إلى الملكة وسط مجلس المستشارين،وهي تقرأ على رؤوساء قومها ووزرائها رسالة سليمان،حيث قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ،إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فقد جاء في نص خطاب الملك سليمان لملكة سبأ،بإنه يأمر أن يأتوه مسلمين (هكذا مباشرة)،كما أنه يتجاوز أمر عبادتهم للشمس ولا يناقشهم في فساد عقيدتهم ولا يحاول إقناعهم بشيء،إنما يأمر فحسب،فهو مؤيد بقوة تسند الحق الذي يؤمن به،فما عليه إذن إلا أن يأمرهم بالتسليم،وكان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية والمهذبة في نفس الوقت.
وهنا طرحت الملكة على رؤوساء قومها الرسالة وشاورتهم في جميع الأمور،حيث قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون} وقد كان رد فعل الملأ وهم رؤوساء قومها التحدي،حيث أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور القوم وإحساسهم بالقوة،لأنهم أدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم بقبول شروطه،حيث قال تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} وقد أراد رؤوساء قومها هنا أن يقولوا: نحن على أتم الإستعداد للحرب،ولكن يبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة منهم،لأن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما إستنفرتها للحرب،فلقد فكرت الملكة طويلا في رسالة سيدنا سليمان،حيث كان إسمه مجهولا لديها كما ولم تسمع به من قبل،وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته،فربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها،وهكذا نظرت الملكة حولها فرأت أنّ عليها أن تحافظ على شعبها وثرائه خشيت الحرب والغزو من سليمان،فرجحت الحكمة في نفسها على التهور وقررت أن تلجأ إلى اللين وترسل إليه بهدية وتشتري السلام منه،حيث قدّرت في نفسها أنه قد سمع عن ثراء مملكتها،كما أنها من خلال إرسالها للهدية سيتمكن رسلها من دخول مملكته،ويرجعون إليها بأخبار قومه وجيشه،وفي ضوء هذه المعلومات سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا.
وهكذا أخفت الملكة ما يدور في نفسها وحدثت رؤوساء قومها بأنها ترى لوزوم إستكشاف نيات الملك سليمان،وذلك عن طريق إرسال هدية إليه،وهنا إنتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالإنتظار والترقب كما وأقنعت رؤوساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا،لأن الملوك إذا دخلوا قرية إنقلبت أوضاعها وصار رؤوسائها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل.

وعندما وصلت هدية الملكة بلقيس إلى النبي سليمان وجاءت الأخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية،أدرك سليمان على الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه،ولهذا نادى سليمان في المملكة بأن يحتشد الجيش،وهكذا دخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلاح،كما فوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان لا شيء،فصغرت هديتهم في أعينهم،كما وفوجئوا أيضا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا،فأدركوا هنا أنهم أمام جيش لا يقاوم،ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على إستحياء شديد،وقالوا له نحن نرفض الخضوع لك،لكننا لا نريد القتال،وهذه الهدية علامة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها،فنظر سليمان إلى هدية الملكة وأشاح ببصره،حيث قال تعالى:{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} وكشف سليمان بكلماته القصيرة هذه عن رفضه لهديتهم،كما وأفهمهم أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال،ولكن يستطيعون شراء رضاه بشيء آخر،حيث قال تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ثم هددهم،حيث قال تعالى:{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} وهكذا رجع رسل بلقيس إلى سبأ،وهنالك هرعوا إلى الملكة وحدثوها أن بلادهم في خطر كما حدثوها عن قوة سليمان وإستحالة صد جيشه،وأفهموها أنها ينبغي أن تزوره وتترضاه،وهنا جهزت الملكة نفسها وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان.
وقد جلس سيدنا سليمان في مجلس الملك وسط رؤوساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه وكان يفكر في بلقيس،حيث عرف أنها في الطريق إليه،تسوقها الرهبة لا الرغبة ويدفعها الخوف لا الإقتناع،وهنا قرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته،ليدفعها بذلك للدخول في الإسلام،فسأل من حوله إن كان بإمكان أحدهم أن يحضر له عرش بلقيس قبل أن تصل هي إليه،فقد كان عرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها والحراسة لا تغفل عنه لحظة،حيث كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة،كما كانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك،فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش وحمله وأمين على جواهره وذلك قبل أن ينتهي المجلس - وكان سليمان يجلس في المجلس من الفجر إلى الظهر-،لكن شخص آخر أطلق عليه القرآن الكريم {الذي عنده علم الكتاب} قال لسليمان أنا أستطيع إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة،وإختلف العلماء في {الذي عنده علم الكتاب} فمنهم من قال أنه سليمان نفسه ومنهم من قال أنه وزيره أو أحد علماء بني إسرائيل والذي كان يعرف إسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ومنهم من قال أنه جبريل عليه السلام،لكن السياق القرآني ترك الإسم وحقيقة الكتاب في غموض كثيف ومقصود،لأننا أمام سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان،والأصل أن الله يظهر معجزاته فحسب،أما سر وقوع هذه المعجزات فلا يعلمه إلا الله،ولهذا يورد السياق القرآني القصة لإيضاح قدرة سليمان الخارقة وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
وهكذا أصبح العرش ماثلا أمام سيدنا سليمان،وعلى الرغم من ذلك فإننا حين نتأمل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة،نلاحظ أنه لم يستخفه الفرح بقدرته ولم يزهه الشعور بقوته،وإنما أرجع الفضل لمالك الملك وشكر الله الذي إمتحنه بهذه القدرة،ليرى أيشكر أم يكفر،وهنا تأمل سيدنا سليمان عرش الملكة بلقيس طويلا ثم أمر بتغييره،حيث أمر بإجراء بعض التعديلات عليه ليمتحن بلقيس حين تأتي،ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين لا يهتدون،كما أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس،وأختار مكانا رائعا على البحر بحيث يقع معظم القصر على مياه البحر،كما وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلابة وعظيم الشفافية في نفس الوقت،لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته الأسماك الملونة وهي تسبح ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك،وهكذا تم بناء القصر،ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته،لم يكن يبدو أن هناك زجاجا،،حيث تلاشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
وبعدها يتجاوز السياق القرآني إستقبال سليمان لبلقيس إلى موقفين وقعا لها بتدبيره،الأول موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء وقد تركته وراءها وعليه الحراس،والثاني موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها الأسماك،فلما إصطحب سليمان عليه السلام بلقيس إلى العرش،نظرت إليه فرأته كعرشها تماما وليس كعرشها تماما،فإذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء ؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف أمكن تقليده بهذه الدقة ؟ فقال سليمان وهو يراها تتأمل العرش: أَهَكَذَا عَرْشُكِ ؟ فقالت بلقيس بعد حيرة قصيرة: كَأَنَّهُ هُوَ ! فقال سليمان: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ،وتوحي عبارته الأخيرة إلى الملكة بلقيس بأن تقارن بين عقيدتها وعلمها وعقيدة سليمان المسلمة وحكمته،حيث إن عبادتها للشمس ومبلغ العلم الذي هم عليه،يصابان بالخسوف الكلي أمام علم سليمان وإسلامه،فلقد سبقها سليمان إلى العلم بالإسلام،وبعدها صار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى،وهنا أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها إلاّ أنها أنكرت فيه أجزاء،فلقد سبقها إلى المجيء وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان،فأي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان ؟ كما وإنبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلاته لله،مثلما إنبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم،كما أدهشها أكثر هذا الإتصال العميق بين إسلام سليمان وعلمه وحكمته.
وهكذا إنتهى الأمر وإهتزت داخل عقلها آلاف الأشياء،حيث رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان،كما وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده،وهنا إنكسفت الشمس للمرة الأولى في قلبها وأضاء القلب نورا جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس،ثم قيل لبلقيس أدخلي القصر،فلما نظرت لم ترى الزجاج ورأت المياه فقط وحسبت أنها ستخوض البحر،فكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا حتى لا يبتل رداؤها،لكن نبهها سليمان -دون أن ينظر- ألا تخاف على ثيابها من البلل،فليس هناك مياه بل إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ،أي أنه زجاج ناعم لا يظهر من فرط نعومته وشفافيته،وهنا إختارت بلقيس هذه اللحظة لإعلان إسلامها،حيث إعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت وتبعها قومها على الإسلام،حيث أدركت أنها تواجه أعظم ملوك الأرض وأحد أنبياء الله الكرام.
وبعدها يسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلامها،ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان بعد ذلك،كما ويقال أنها تزوجت أحد رجاله بعدما أحبته،وقد ثبت أن بعض ملوك الحبشة هم من نسل هذا الزواج،ونحن لا ندري حقيقة هذا كله،فلقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه التفاصيل التي لا تخدم قصه سليمان،ولا نرى نحن داعيا للخوض فيما لا يعرف أحد.
ومن أهم الأعمال التي قام بها سليمان –عليه السلام- هي إعادة بناء المسجد الأقصى الذي بناه سيدنا يعقوب من قبل،كما وبنى بجانب المسجد الأقصى هيكلا عظيما كان مقدسا عند اليهود ولا زالوا يبحثون عنه إلى اليوم،وقد ورد في الهدي النبوي الكريم أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل ثلاثا،فأعطاه الله إثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة،حيث سأله حكما يصادف حكمه –أي أحكاما عادلة كأحكام الله تعالى- فأعطاه إياه،وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه،وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه،ونسأل الله أن تكون لنا.
وقد تفننت التوراة في وصف هيكل سليمان بحيث أنه كان في أورشليم وهو مركز العبادة اليهودية ورمز تاريخ اليهود وموضع فخارهم وزهوهم،وقد شيده الملك سليمان وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته،حتى إحتاج في ذلك إلى أكثر من 180 ألف عامل (سفر الملوك الأول)،وقد أتى له سليمان بالذهب من ترشيش وبالخشب من لبنان وبالأحجار الكريمة من اليمن،ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل تكامل بناء الهيكل،فكان آية من آيات الدنيا في ذلك الزمان.
وقد إمتدت يد الخراب إلى الهيكل مرات عديدة،إذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما به من كنوز،ثم يشيعون فيه الدمار (سفر الملوك الثاني)،ثم قام أحد الملوك بتجديد بنائه تحببا في اليهود،فإستغرق بناء الهيكل هذه المرة 46 سنة،حتى أصبح بعدها صرحا ضخما تحيط به ثلاثة أسوار هائلة،كما كان مكونا من ساحتين كبيرتين إحداهما خارجية والأخرى داخلية،وكانت تحيط بالساحة الداخلية أروقة شامخة تقوم على أعمدة مزدوجة من الرخام وتغطيها سقوف من خشب الأرز الثمين،وكانت الأروقة القائمة في الجهة الجنوبية من الهيكل ترتكز على 162 عمودا،حيث كل منها من الضخامة بحيث لا يمكن لأقل من ثلاثة رجال متشابكي الأذرع أن يحيطوا بدائرته،في حين كان للساحة الخارجية من الهيكل تسع بوابات ضخمة مغطاة بالذهب وبوابة عاشرة مصبوبة كلها على الرغم من حجمها الهائل من نحاس كونثوس،وقد تدلت فوق تلك البوابات كلها زخارف على شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص،وقد إستمرت هدايا الملوك للهيكل حتى آخر زمانه (سفر الملوك الأول)،حيث كان يزخر بالكنوز التي لا تقدر بثمن.
وأخيرا فقد عاش سيدنا سليمان وسط مجد دانت له فيه الأرض،ثم قدّر الله تعالى عليه الموت فمات،وذلك بعد أن عاش 52 سنة،حيث ورث ملك أبيه وعمره 12 سنة ودام ملكه 40 سنة،ومثلما كانت حياة سيدنا سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق،فقد كان موته آية من آيات الله تمتلئ بالعجائب والخوارق أيضا،وهكذا جاء موته منسجما مع حياته متسقا مع مجده وجاء نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة.
فلقد قدّر الله تعالى أن يكون موت سليمان عليه الصلاة والسلام بشكل ينسف فكرة معرفة الجن للغيب،تلك الفكرة التي فتن الناس بها فإستقرت في أذهان بعض البشر والجن،حيث كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي،فلما مات إنكسر تسخيرهم له وأعفو من تبعة العمل معه،وهكذا مات سليمان دون أن يعلم الجن،فظلوا يعملون له وظلوا مسخرين لخدمته،ولو أنهم كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
فلقد كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون،ومات وهو على وضعه هذا،ورآه الجن فظنوا أنه يصلي وإستمروا في عملهم ومرت أيام طويلة،ثم جاءت دابة الأرض وهي نملة تأكل الخشب وبدأت تأكل عصا سليمان،حيث كانت جائعة فأكلت جزء من العصا وإستمرت على ذلك أياما،وقد كانت تأكل من الجزء الملامس للأرض،فلما إزداد ما أكلته منها إختلت العصا وسقطت من يد سليمان،حيث إختل بعدها توازن هذا الجسد العظيم فهوى إلى الأرض وإرتطم بالأرض فهرع الناس إليه،وأدركوا أنه مات منذ زمن،وهكذا تبين للجن أنهم لا يعلمون الغيب وعرف الناس هذه الحقيقة أيضا،فلو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وما لبثوا يعملون وهم يظنون أن سليمان حي،بينما هو ميت منذ فترة،وبهذه النهاية العجيبة ختم الله حياة هذا النبي الملك.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart