قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

  1. ماشاء الله تبارك الله، أسلوب السّرد وإختيار المصطلحات مُبهر جدًا ، أستمتعت بالقصة جدًا هذة المرة الأولى التي اقرأ فيها قصة بكل هذا الإنبهار والإعجاب بالأسلوب السردي القصصي .. بارك الله جهودكم وجزاكم الله خير الجزاء 💕

    ردحذف

قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام

قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام
سيدنا إبراهيم عليه السلام هو خليل الله وأبو الأنبياء،حيث إصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه،وقد ولد بعد الطوفان بـ 1263 سنة وقد عاش 200 عام،كما كان سيدنا إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب،فلم يكن يرضيه ذلك وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم،حتى هداه الله وإصطفاه برسالته،وهكذا أخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم،كما وقد جعل الله له الأنبياء من نسله فولد له إسماعيل وإسحاق،بالإضافة إلى أن سيدنا إبراهيم قام ببناء الكعبة مع ولده إسماعيل.

إن سيدنا إبراهيم عليه السلام هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين أخذ الله منهم ميثاقا غليظا وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (بترتيب بعثهم)،كما أنه النبي الذي إبتلاه الله ببلاء مبين،وهو بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب،وبالرغم من حدة هذه الشدة وعنت البلاء،فقد كان إبراهيم هو العبد الذي وفى وزاد على الوفاء بالإحسان،وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا،فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب كما وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه،بالإضافة إلى أنه كان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس وجعل في ذريته النبوة والكتاب،فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله،فهم أولاده وأحفاده،حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم،جاء تحقيقا وإستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل سيدنا إبراهيم وتكريم الله له،فسوف نمتلئ بالدهشة ونحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم،فهو إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين،وهو النبي الأول الذي سمانا المسلمين،كما أنه كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده،وقد كان سيدنا إبراهيم نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب،ويذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق،فيقول الله عز وجل في محكم آياته: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فلم يرد في كتاب الله ذكر لنبي إتخذه الله خليلا غير إبراهيم،وقد قال العلماء أن الخُلَّة هي شدة المحبة وبذلك تعني الآية وإتخذ الله إبراهيم حبيبا،وهكذا يجلس سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوق هذه القمة الشامخة،حيث إن منتهى أمل السالكين وغاية هدف المحققين والعارفين بالله أن يحبوا الله عز وجل،أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله وأن يفرده بالحب وأن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة،فذلك شيء وراء آفاق التصور،وسيدنا إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي إستحق أن يتخذه الله خليلا.
ولا يتحدث القرآن عن ميلاد أو طفولة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما ولا يتوقف عند عصره صراحة،ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه،فتدب الحياة في عصره وترى الناس قد إنقسموا ثلاث فئات
- فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
-
 فئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
-
 فئة تعبد الملوك والحكام.
وفي هذا الجو ولد سيدنا إبراهيم،حيث ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد،ولم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام بل كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة،وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه آزر وكان له بمثابة الأب (وهذا الأصح)،حيث كان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة،وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا،كما وقيل أن آزر إسم صنم إشتهر أبوه بصناعته،ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة،حيث رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة،وهي مهنة تضفي له قداسة خاصة في قومه وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع،فهي أسرة مرموقة ومن الصفوة الحاكمة،ومن هذه الأسرة المقدسة،ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك.
ومرت الأيام وكبر سيدنا إبراهيم،وقد كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده،فلم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه،كما لاحظ إبراهيم أن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها،فكيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع ؟!
وهكذا قرر إبراهيم عليه السلام بدءا مواجهة عبدة النجوم من قومه،فأعلن عندما رأى أحد الكواكب في الليل أن هذا الكوكب ربه،ويبدو أن قومه هنا إطمأنوا له وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل ويهوى عبادة الكواكب،حيث كانت الملاحة حرة بين الوثنيات الثلاث (عبادة التماثيل والنجوم والملوك)،غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح،فلقد أفل الكوكب الذي إلتحق بديانته بالأمس وإبراهيم لا يحب الآفلين،فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن القمر ربه،ولم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف وحب،فكيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر،يأفل ثم يشرق،ولم يفهم قومه هذا في المرة الأولى،فكرره مع القمر لكن القمر يظهر ويختفي،فقال إبراهيم عندما أفل القمر كما جاء في قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ونلاحظ هنا أنه عندما يحدث قومه عن رفضه لألوهية القمر،فإنه يمزق عقيدتهم بهدوء ولطف،فكيف يعبد الناس ربا يختفي ويأفل،وهنا يحاول أن يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون لكن هذه اللفتة لم تصل إليهم بعد،ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على قومه من عبدة الكواكب والنجوم،فيعلن أن الشمس ربه لأنها أكبر من القمر،وما أن غابت الشمس حتى أعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب،فكلها مخلوقات تأفل،وهكذا أنهى جولته الأولى بتوجيهه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ليس مشركا مثلهم.
وهنا إستطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق،وهكذا بدأ صراع قومه معه،فلم يسكت عنه عبدة النجوم والكواكب،حيث بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده،ولكن رد إبراهيم عليهم كما جاء في قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ونحن لا نعرف رهبة الهجوم عليه ولا حدة الصراع ضده ولا أسلوب قومه الذي إتبعه معه لتخويفه،حيث تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو،فقد كان جدالهم باطلا فأسقطه القرآن من القصة وذكر رد سيدنا إبراهيم المنطقي العاقل،بحيث كيف يخوفونه ولا يخافون هم ؟ وأي الفريقين أحق بالأمن ؟
وهكذا وبعد أن بين إبراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب،إستعد لتبيين حجته لعبدة الأصنام،فكما آتاه الله الحجة في المرة الأولى سيؤتيه الحجة في كل مرة،فسبحانه كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والأرض،فلم يكن معه غير إسلامه حين بدأ صراعه مع عبدة الأصنام،فهذه المرة يأخذ الصراع شكلا أعظم حدة لأن والده في الموضوع،فهذه مهنة الأب وسر مكانته وموضع تصديق القوم كما أنها العبادة التي تتبعها الأغلبية،وهنا خرج إبراهيم على قومه بدعوته،حيث قال بحسم غاضب وغيرة على الحق كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} وهنا بدأ الصراع بين إبراهيم وقومه،وقد كان أشدهم ذهولا وغضبا هو عمه الذي رباه كأب،فإشتبك الأب والإبن في الصراع،حيث فصلت بينهما المبادئ فإختلفا (الإبن يقف مع الله والأب يقف مع الباطل)،وقال الأب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم،فلقد خذلتني وأسأت إلي،فرد إبراهيم،حيث قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} وهنا إنتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب،وقال لإبراهيم وهو ثائر: إذا لم تتوقف عن دعوتك هذه فسوف أرجمك (سأقتلك ضربا بالحجارة) فهذا جزاء من يقف ضد الآلهة،وأخرج من بيتي فلا أريد أن أراك.
وإنتهى الأمر بحيث أسفر هذا الصراع عن طرد إبراهيم من بيته،كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا بالحجارة،ورغم ذلك تصرف إبراهيم كإبن بار ونبي كريم،وخاطب أباه بأدب الأنبياء،فقال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل،حيث قال تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} وهنا خرج إبراهيم من بيت أبيه وهجر قومه وما يعبدون من دون الله،وقرر في نفسه أمرا،حيث كان يعرف أن هناك إحتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر وينصرف الناس جميعا إليه،فإنتظر حتى جاء الإحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس،وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد،حيث كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية وكان المعبد نفسه مهجورا،لأن كل الناس كانو في الإحتفال،فدخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة ونظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخر والخشب،كما نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا،وإقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم: َألا تَأْكُلُونَ،حيث كان يسخر منهم ويعرف أنهم لا يأكلون،وعاد يسأل التماثيل: مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ،ثم هوى بفأسه على الآلهة.
وتحولت هذه الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة،إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم حتى يسألونه القوم كيف وقعت الواقعة وهو حاضر،وكيف لم يدافع عن صغار الآلهة،ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها،فيرجعون إلى صوابهم،إلا أن قوم إبراهيم الذين عطّلت الخرافة عقولهم عن التفكير وغلّ التقليد أفكارهم عن التأمل والتدبر،لم يسألوا أنفسهم إن كانت هذه آلهة،فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا،وهذا كبيرها كيف لم يدافع عنها،وبدلا من ذلك قالوا،حيث قال تعالى: {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل،ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد إنصرافهم عنها.
فأحضروا إبراهيم عليه السلام،وتجمّع الناس وسألوه،حيث قال تعالى: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فأجابهم إبراهيم،حيث قال تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر،فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي إختلف عليها المفسرون،فالأمر أيسر من هذا بكثير،وإنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا،فهي جماد لا إدراك له أصلا،وأنتم كذلك مثلها مسلوبوا الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل،فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها،ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا وردهم إلى شيء من التدبر التفكر،حيث قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} وقد كانت بادرة خير هنا أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف،وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم،وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم،وذلك الظلم الذي هم فيه سائرون،ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام،وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود،حيث قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} وحقا كانت الأولى رجعة إلى النفوس وكانت الثانية نكسة على الرؤوس،وكما يقول التعبير القرآني المصور العجيب،كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر أما الثانية فكانت إنقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير،وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم وأقوى حجة لإبراهيم أن هؤولاء لا ينطقون.
ومن ثم يجيبهم سيدنا إبراهيم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم،لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم،حيث قال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر وغيظ النفس والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف،عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل،فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ،حيث قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} وفعلا بدأ الإستعداد لإحراق إبراهيم،وإنتشر النبأ في المملكة كلها،وجاء الناس من القرى والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على الآلهة وحطمها وإعترف بذلك وسخر من الكهنة.

وهكذا حفروا حفرة عظيمة وملؤوها بالحطب والخشب والأشجار،وأشعلوا فيها النار،وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفوا إبراهيم بها،حيث وضعوا إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق،حتى يسقط في حفرة النار،وإشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى السماء،وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة،وهنا أصدر كبير الكهنة أمره برمي إبراهيم في النار،فجاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم وسأله: يا إبراهيم،ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا،وإنطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار،وكانت النار موجودة في مكانها،ولكنها لم تكن تمارس وظيفتها في الإحراق،فقد أصدر الله جل جلاله إلى النار أمره،حيث قال تعالى: {قلنا يا نار كوني بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وهنا أحرقت النار قيوده فقط،وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة،فكان يسبّح بحمد ربه ويمجّده،ولم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أو الجزع،فكان القلب مليئا بالحب وحده ومات الخوف وتلاشت الرهبة،وإستحالت النار إلى سلام بارد يلطف عنه حرارة الجو.
وهنا جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد،حيث كانت حرارتها تصل إليهم على الرغم من بعدهم عنها،وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنها لن تنطفئ أبدا،فلما إنطفأت فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل ووجهه يتلألأ بالنور والجلال،وثيابه كما هي لم تحترق وليس عليه أي أثر للدخان أو الحريق،وخرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة،وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة،فكانت الخسارة مريرة وساخرة،حيث قال تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
ولا يحدثنا القرآن الكريم عن عمر سيدنا إبراهيم حين حطم أصنام قومه،ولا يحدثنا عن السن التي كلف فيها بالدعوة إلى الله،ولكن يبدو من إستقراء النصوص القديمة أن إبراهيم كان شابا صغيرا حين فعل ذلك،حيث قال تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} وكلمة الفتى تطلق على السن التي تسبق العشرين،كما إن زمن إصطفاء الله تعالى لإبراهيم غير محدد في القرآن،وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نقطع فيه بجواب نهائي،وكل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي هو أن إبراهيم أقام الحجة على عبدة التماثيل بشكل قاطع،كما أقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم،ولم يبق إلا أن تقام الحجة على الملوك المتألهين وعبادهم،وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين.
وهنا ذهب إبراهيم عليه السلام لملك كان في زمانه،وقد تجاوز القرآن عن إسم الملك لإنعدام أهميته،لكن روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب (بالنمرود) وهو ملك الآراميين بالعراق،وتم تجاوز حقيقة مشاعره،كما تم تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه،لكن الله تعالى في كتابه الحكيم أخبرنا بالحجة الأولى التي أقامها إبراهيم عليه السلام على هذا الملك الطاغية،حيث قال تعالى: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} وقال الملك،حيث قال تعالى: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} أي أستطيع أن أحضر رجلا يسير في الشارع وأقتله،وأستطيع أن أعفو عن محكوم عليه بالإعدام وأنجيه من الموت،وبذلك أكون قادرا على الحياة والموت،ولم يجادل إبراهيم الملك في هذا لسذاجة ما يقول،غير أنه أراد أن يثبت للملك أنه يتوهم في نفسه القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا،فرد إبراهيم،حيث قال تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وهنا إستمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا،فلما إنتهى كلام النبي بهت الملك وأحس بالعجز ولم يستطع أن يجيب،فلقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب،فعندما قال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق،فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب،حيث إن للكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها وقوانين خلقها الله ولا يستطيع أي مخلوق أن يتحكم فيها،ولو كان الملك صادقا في إدعائه الألوهية فليغير نظام الكون وقوانينه،ساعتها أحس الملك بالعجز وأخرسه التحدي،ولم يعرف ماذا يقول ولا كيف يتصرف،وإنصرف إبراهيم من قصر الملك،بعد أن بهت الذي كفر.
وهكذا إنطلقت شهرة سيدنا إبراهيم في المملكة كلها،وتحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار،كما تحدث الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول،وإستمر إبراهيم في دعوته لله تعالى،حيث بذل جهده ليهدي قومه وحاول إقناعهم بكل الوسائل،ورغم حبه لهم وحرصه عليهم فقد غضب قومه منه وهجروه،ولم يؤمن معه من قومه سوى إمرأة ورجل واحد،إمرأة تسمى سارة،وقد صارت فيما بعد زوجته،ورجل هو لوط.

وحين أدرك سيدنا إبراهيم أن أحدا لن يؤمن بدعوته،قرر الهجرة،وقبل أن يهاجر،دعا والده للإيمان،ثم تبين لإبراهيم أن والده عدو لله وأنه لا ينوي الإيمان،فتبرأ منه وقطع علاقته به،وللمرة الثانية في قصص الأنبياء نصادف هذه المفاجأة،ففي قصة نوح كان الأب نبيا والإبن كافرا،وفي قصة إبراهيم كان الأب كافرا والإبن نبيا،وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته من عدو الله رغم كونه إبنه أو والده،وكأن الله يفهمنا من خلال القصة أن العلاقة الوحيدة التي ينبغي أن تقوم عليها الروابط بين الناس،هي علاقة الإيمان لا علاقة الميلاد والدم.
وهكذا خرج إبراهيم عليه السلام من بلده وبدأ هجرته،فسافر إلى مدينة تدعى أور ومدينة تسمى حاران،ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته،المرأة الوحيدة التي آمنت به،كما وصحب معه لوطا،الرجل الوحيد الذي آمن به،وبعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر،وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات كلها،كان يدعو الناس إلى عبادة الله ويحارب في سبيله ويخدم الضعفاء والفقراء ويعدل بين الناس ويهديهم إلى الحقيقة والحق.
وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر،حيث تقول: وصلت الأخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه إمرأة هي أجمل نساء الأرض،فطمع بها وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة،وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذي معها،فإن كان زوجها فليقتلوه،وهنا جاء الوحي لإبراهيم عليه السلام بذلك،فقال إبراهيم لسارة: إن سألوك عني فأنت أختي -أي أخته في الله-،كما وقال لها ما على هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك،فكل أهل مصر كفرة وليس فيها موحد لله عز وجل،وهنا جاء الجنود وسألوا إبراهيم: ما تكون هذه منك ؟ قال: أختي.
لنقف هنا قليلا،فقد قال إبراهيم حينما قال لقومه (إني سقيم) و(بل فعله كبيرهم هذا فإسألوه) و(هي أختي)،وكلها كلمات تحتمل التاويل،لكن مع هذا كان إبراهيم عليه السلام خائفا جدا من حسابه على هذه الكلمات يوم القيامة،بينما نجد أن البشر الآن يكذبون أمام الناس من غير إستحياء ولا خوف من خالقهم.
ولما عرفت سارة أن ملك مصر فاجر ويريدها له،أخذت تدعوا الله قائلة: اللّهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر،فلما أدخلوها عليه،مد يده إليها ليلمسها فشلّ وتجمدت يده في مكانها،فبدأ بالصراخ لأنه لم يعد يستطيع تحريكها،وجاء أعوانه لمساعدته لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء،فخافت سارة على نفسها أن يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك،فقالت: يا رب أتركه حتى لا يقتلوني به،فإستجاب الله لدعائها،لكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب،فهجم عليها مرة أخرى فشلّ مرة ثانية،فقال: فكيني،فدعت الله تعالى فَفَكّه،فمد يده ثالثة فشلّ،فقال: فكيني وأطلقك وأكرمك،فدعت الله سبحانه وتعالى فَفُك،فصرخ الملك بأعوانه: أبعدوها عني فإنكم لم تأتوني بإنسان بل أتيتموني بشيطان،فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب كما أعطاها أَمَةً اسمها (هاجر) وهذه هي الرواية المشهورة عن دخول سيدنا إبراهيم عليه السلام لمصر.
وقد كانت سارة لا تلد،وكان ملك مصر كما ذكرنا قد أهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها (هاجر)،كما وكان سيدنا إبراهيم قد صار شيخا وإبيض شعره من خلال عمر أنفقه في الدعوة إلى الله،وهنا فكرت سارة إنها وإبراهيم وحيدان وهي لا تنجب أولادا،فماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون زوجة له،وهكذا زوّجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر،وولدت هاجر إبنها الأول فأطلق والده عليه إسم (إسماعيل)،وقد كان سيدنا إبراهيم شيخا حين ولدت له هاجر أول أبنائه إسماعيل.
ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله،فقد كان دائما هو المسافر إلى الله،سواء إستقر به المقام في بيته أو حملته خطواته سائحا في الأرض ومسافر إلى الله،فهو يعلم إنها أيام على الأرض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الأموات ويقع البعث.
ولقد ملأت معجزات اليوم الآخر (القيامة) قلب إبراهيم بالسلام والحب واليقين،وأراد أن يرى يوما كيف يحيي الله عز وجل الموتى،وحكى الله تعالى هذا الموقف في سورة (البقرة)،حيث قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ولا تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع الإيمان إلا درجة من درجات الحب لله،فرد الله تعالى قائلا: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ففعل إبراهيم ما أمره به الله،وذبح أربعة من الطير وفرّق أجزاءها على الجبال،ودعاها بإسم الله،فنهض الريش يلحق بجناحه وبحثت الصدور عن رؤوسها وتطايرت أجزاء الطير مندفعة نحو الالتحام وإلتقت الضلوع بالقلوب وسارعت الأجزاء الذبيحة للإلتئام،ودبت الحياة في الطير وجاءت طائرة مسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم.
ولقد إعتقد بعض المفسرون إن هذه التجربة كانت حب إستطلاع من إبراهيم،كما وإعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلال الخالق وهي تعمل،فهو لم يرى الأسلوب وإنما رأى النتيجة،وأخيرا إعتقد البعض أنه إكتفى بما قاله له الله ولم يذبح الطير،إلاّ أنه يعتقد أن هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها المسافر سيدنا إبراهيم إلى الله .
وهكذا مرت الأيام وفي يوم إستيقظ  سيدنا إبراهيم وأمر زوجته هاجر أن تحمل إبنها وتستعد لرحلة طويلة،وبعد أيام بدأت رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما إبنهما إسماعيل والذي كان طفلا رضيعا لم يفطم بعد،وظل سيدنا إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال،حتى دخل إلى صحراء الجزيرة العربية،وهنا قصد إبراهيم واديا ليس فيه زرع ولا ثمر ولا شجر ولا طعام ولا مياه ولا شراب،حيث كان الوادي يخلو تماما من علامات الحياة،وعندما وصل إبراهيم إلى الوادي،هبط من فوق ظهر دابته وأنزل زوجته وإبنه وتركهما هناك،وترك معهما جرابا فيه بعض الطعام وقليلا من الماء،ثم إستدار وسار،وهنا أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء ؟ فلم يرد عليها سيدنا إبراهيم وظل يسير،فعادت تقول له ما قالته وهو صامت،أخيرا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه وأدركت أن الله أمره بذلك وسألته: هل الله أمرك بهذا ؟ فقال إبراهيم عليه السلام: نعم،فقالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا،فهو الذي أمرك بهذا،وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله،حيث قال تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.
ولم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد كما ولم تكن الكعبة قد بنيت،وقد كانت هناك حكمة عليا في هذه التصرفات الغامضة،فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك مع أمه في هذا المكان،هو الذي سيصير مسؤولا مع والده عن بناء الكعبة فيما بعد،كما وكانت حكمة الله تقضي أن يمتد العمران إلى هذا الوادي،وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلاة بوجوهنا.
وهكذا ترك سيدنا إبراهيم زوجته وإبنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوة الله،فأرضعت أم إسماعيل إبنها وأحست بعد ذلك بالعطش،حيث كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الإحساس بالعطش،وبعد يومين إنتهى الماء تماما وجف لبن الأم،وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش،حيث كان الطعام قد إنتهى هو الآخر،وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية،فها هو الطفل إسماعيل يبكي من العطش،فتركته أمه وإنطلقت تبحث عن الماء،فراحت تمشي مسرعة حتى وصلت إلى جبل إسمه (الصفا)،فصعدت إليه وراحت تبحث به عن بئر أو إنسان أو قافلة،ولم يكن هناك شيء،فنزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل (المروة)،فصعدت إليه ونظرت لترى أحدا لكنها لم ترى أحدا،فعادت الأم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد إشتد عطشه،فأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه،وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه،وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين (سبع مرات وهي تذهب وتعود)،ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل،وعادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث،وجلست بجوار إبنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله،فضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكي،فإنفجرت تحت قدمه بئر زمزم وفار الماء من البئر،وأنقذت حياتا الطفل والأم،فراحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله وشربت وسقت طفلها،ومن هنا بدأت الحياة تدب في المنطقة،وصدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا،ومع مرور الزمن بدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة،حيث جذب الماء الذي إنفجر من بئر زمزم عديدا من الناس،وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
وهكذا كبر إسماعيل وتعلق به قلب إبراهيم،حيث جاءه العقب على كبر فأحبه،ولكن إبتلى الله تعالى إبراهيم بلاء عظيما بسبب هذا الحب،فقد رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح إبنه الوحيد إسماعيل،وإبراهيم يعلم أن رؤيا الأنبياء وحي،ونلاحظ هنا كيف يختبر الله عباده ونتأمل أي نوع من أنواع الإختبار،فنحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في الأرض،حيث إتسع قلبه لحب الله وحب من خلق،كما وجاءه إبن على كبر وقد طعن هو في السن ولا أمل هناك في أن ينجب،ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح إبنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره،فأي نوع من الصراع نشب في نفسه،ويخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط،فلا يكون بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع،فقد نشب الصراع في نفس إبراهيم،وهو صراع أثارته عاطفة الأبوة الحانية،لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح إبنه،فليس إبراهيم من يسأل ربه عن أوامره.
وهنا فكر إبراهيم في ولده وماذا سوف يقول عنه إذا أرقده على الأرض ليذبحه،والأفضل هنا أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا،وإنتهى أمر هذا الصراع  وذهب سيدنا إبراهيم  إلى ولده،حيث قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} ونلاحظ هنا تلطفه في إبلاغ ولده،وترك الأمر لينظر فيه الإبن بالطاعة،فالأمر مقضي في نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه،فماذا يرى الإبن الكريم في ذلك ؟ فأجاب إسماعيل: هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه،حيث قال تعالى: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ونتأمل هنا في رد الابن،فهو إنسان يعرف أنه سيذبح،فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده صابرا،حيث قال تعالى: {ستجدني إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فهو الصبر على أي حال وعلى كل حال،فربما إستعذب الإبن أن يموت ذبحا بأمر من الله،لكن ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن إبنه ينافسه في حب الله،ولا نعرف أي مشاعر جاشت في نفس إبراهيم بعد إستسلام ابنه الصابر.
وينقلنا الحق بعد ذلك نقلة خاطفة،فإذا إسماعيل راقد على الأرض وجهه في الأرض رحمة به كي لا يرى نفسه وهو يذبح،وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين فأمر الله مطاع،عندئذ فقط وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره،حيث قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} وإستخدم القرآن هذا التعبير،لأن هذا هو الإسلام الحقيقي،تعطي كل شيء فلا يتبقى منك شيء،وهنا نادى الله تعالى إبراهيم،حيث إنتهى إختباره وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم،وصار ذلك اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد وهم المسلمون،حيث صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين،عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقي الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
ومضت قصة إبراهيم،حيث ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه،خليلا له وحده،ومرت الأيام وكان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق وعبر الأردن وسكن في أرض كنعان في البادية،ولم يكن إبراهيم ينسى خلال دعوته إلى الله أن يسأل عن أخبار لوط مع قومه،حيث كان لوط أول من آمن به،وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم من الفاجرين العصاة.
وفي يوم كان سيدنا إبراهيم جالس لوحده،فهبطت على الأرض أقدام ثلاثة من الملائكة وهم جبريل وإسرافيل وميكائيل،وقد كانوا في صور بشرية من الجمال الخارق،وساروا صامتين،حيث كانت مهمتهم مزودجة،وهي المرور على إبراهيم وتبشيره،ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم،وقد سار الملائكة الثلاثة قليلا،ثم ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم،فرفع إبراهيم رأسه وتأمل وجوههم،فلم يعرف أحدا فيهم،فبادروه بالتحية وقالوا: سلاما،فقال: سلام،ونهض إبراهيم ورحب بهم وأدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء،فأجلسهم وإطمأن أنهم قد إستقروا،ثم إستأذن وخرج إلى أهله،فنهضت زوجته سارة حين دخل عليها،وقد كانت عجوزا إبيض شعرها،ولم يعد يتوهج بالشباب فيها غير وميض الإيمان الذي يطل من عينيها،فقال إبراهيم لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء،سألته: من يكونون ؟ قال: لا أعرف أحدا فيهم،وجوه غريبة على المكان،لا ريب أنهم من مكان بعيد،غير أن ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل،أي طعام جاهز لدينا ؟ قالت: نصف شاة،قال وهو يهم بالإنصراف: نصف شاة ! إذبحي لهم عجلا سمينا،فهم ضيوف وغرباء وليست معهم دواب أو أحمال أو طعام،ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.
وإختار سيدنا إبراهيم عجلا سمينا وأمر بذبحه،فذكروا عليه إسم الله وذبحوه،وبدأ شواء العجل على الحجارة الساخنة،وأعدت المائدة،ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام،حيث أشار إبراهيم بيده أن يتفضلوا بإسم الله وبدأ هو يأكل ليشجعهم،وقد كان إبراهيم كريما يعرف أن الله لا يتخلى عن الكرماء وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل،وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد،غير أنه كان سيدا عظيم الكرم،وهنا راح إبراهيم يأكل ثم إسترق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم يأكلون،ولاحظ أن أحدا لا يمد يده إلى الطعام،فقرب إليهم الطعام وقال: ألا تأكلون ؟ وعاد إلى طعامه ثم إختلس إليهم نظرة فوجدهم لا يأكلون ورأى أيديهم لا تصل إلى الطعام،عندئذ خاف منهم،ففي تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم،كان معنى إمتناع الضيوف عن الأكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت،كما ولاحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه،فلاحظ أنهم دخلوا عليه فجأة،ولم يرهم إلا وهم عند رأسه،ولم يكن معهم دواب تحملهم،ولم تكن معهم أحمال،ووجوههم غريبة تماما عليه،فهم كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر،ثم ها هو ذا يدعوهم إلى طعامه فيجلسون إلى المائدة ولا يأكلون،فإزداد خوف إبراهيم منهم.
ولقد كان الملائكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه،دون أن يشي بها وجهه،فقال له أحد الملائكة: لا تخف،فرفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة: أعترف إنني خائف،لقد دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم،ولكنكم لا تمدون أيديكم إليه،هل تنوون بي شرا ؟ إبتسم أحد الملائكة وقال: نحن لا نأكل يا إبراهيم،نحن ملائكة الله وقد أرسلنا إلى قوم لوط،فضحكت زوجة إبراهيم،حيث كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم،فإلتفت إليها أحد الملائكة وبشرها بإسحاق،فصكت العجوز وجهها تعجبا،حيث قال تعالى: {قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} ثم عاد أحد الملائكة يقول لها،حيث قال تعالى: {وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} وجاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته وإحتل قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط،كما كانت زوجته العاقر تقف هي الأخرى وهي ترتجف،فإن بشارة الملائكة تهز روحها هزا عميقا،كما إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير،فكيف يمكن ذلك ؟ ووسط هذا الجو المضطرب تساءل إبراهيم،حيث قال تعالى: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فهل كان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أو هل كان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة الله عليه ؟ أو هل كان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق ويهتز بالفرح مرتين بدلا من مرة واحدة ؟ ولكن أكدت له الملائكة أنهم بشروه بالحق،حيث قال تعالى: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} ولم تفهم الملائكة إحساسه البشري،حيث نفى أن يكون من القانطين وأفهمهم أنه ليس قانطا،إنما هو الفرح.
ولم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته،فلم يكن لإبراهيم غير ولد واحد هو إسماعيل،حيث تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية،كما ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلال عشرتها الطويلة لإبراهيم،وهي التي زوجته من جاريتها هاجر حتى تنجب له،ومن هاجر جاء إسماعيل،أما سارة فلم يكن لها ولد،وكان حنينها إلى الولد عظيما،ولم يطفئ مرور الأيام من توهجه،ثم دخلت شيخوختها وإحتضر حلمها ومات،وكانت دائما تقول: إنها مشيئة الله عز وجل،وهكذا أراد الله لها وهكذا أراد لزوجها،ثم ها هي وفي مغيب العمر تتلقى البشارة،حيث ستلد غلاما،وليس هذا فحسب،بل وبشرتها الملائكة بأن إبنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته،فلقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت،ولكن يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة.
وفاضت دموعها وهي تقف،كما وأحس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإحساس محير،وجاشت نفسه بمشاعر الرحمة والقرب،وعاد يحس بأنه إزاء نعمة لا يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر،وخرّ إبراهيم ساجدا على وجهه،وإنتهى الأمر وإستقرت البشرى في ذهنيهما معا،فنهض إبراهيم من سجوده وقد ذهب عنه خوفه وإطمأنت حيرته وغادره الروع وسكنت قلبه البشرى التي حملوها إليه،ثم تذكر أنهم أرسلوا إلى قوم لوط،ولوط إبن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن على مقربة منه،وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملائكة إلى لوط وقومه،فهذا معناه وقوع عذاب مروع،وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودودة لا تجعله يطيق هلاك قوم في تسليم،فلربما رجع قوم لوط وأقلعوا وأسلموا وأجابوا رسولهم.
وهنا بدأ سيدنا إبراهيم يجادل الملائكة في قوم لوط،فحدثهم عن إحتمال إيمانهم ورجوعهم عن طريق الفجور،لكن الملائكة أفهمته أن هؤولاء قوم مجرمون،وأن مهمتهم (أي الملائكة) هي إرسال حجارة من طين مسومة من عند ربك للمسرفين،ولكن عاد إبراهيم بعد أن سد الملائكة باب هذا الحوار يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط،فقالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها،ثم أفهموه أن الأمر قد قضي وإن مشيئة الله تبارك وتعالى قد إقتضت نفاذ الأمر وهلاك قوم لوط،كما أفهموا إبراهيم أن عليه أن يعرض عن هذا الحوار،ليوفر حلمه ورحمته،فلقد جاء أمر ربه وتقرر عليهم عذاب لن يرده جدال إبراهيم،وهكذا كانت كلمة الملائكة إيذانا بنهاية الجدال،فسكت إبراهيم وتوجهت الملائكة لقوم لوط عليه السلام،وأخيرا يذكر أن سيدنا إبراهيم قد دفن في مدينة الخليل (فلسطين) وفيها أيضا قبر زوجته الأولى سارة.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart