الديمقراطية في حضارة بلاد الرافدين
في حدود الألف الثاني قبل الميلاد وجدت في أرض
العراق القديم مجتمعات منظمة،كونت بفعل عوامل التطور أولى معالم الحضارة في العالم،بحيث كانت تتمتع بكل مظاهر الحضارة والتمدن وفي شتى مجالات الحياة في وقتها،وهذا الأمر
كان مقدمة جيدة لتأسيس أنظمة للحكم تتصف بالتمدن والتطور.
ولقد تأسست في بلاد الرافدين دويلة المدينة التي تقوم على نظرية الحق الإلهي في الحكم،ومن هنا كان أساس الملك والحكم في بلاد الرافدين قائما على الملكية المطلقة التي يعضدها ويشرع وجودها الواعز الديني،والذي روج له الكهنة وجعلوه القاعدة التي ليست محل شبهة أو نقاش،فالملك والكاهن هما صاحبي الحق الإلهي في إدارة البلاد وقيادة الأمة،كما وقد تأسست البنية الإجتماعية في ذلك الوقت على وفق تصور ديني كان من أبرز مظاهره،المعبد والذي يعد الركن الذي بنيت المدن بموجبه،بحيث أن هذا المعبد يشغله الكاهن والذي يعد من كبار المستشارين للملك،كما أن لديه صلاحيات محددة،قائمة على العرف والتقليد،أما المظهر الآخر والذي كانت كل مدينة سومرية أو أكدية لا تخلو من وجود فهو القصر الذي يسكنه الملك والذي كان له مستشارين من أعيان البلد يضمهم مجلس يسمى (مجلس الشيوخ) يشاركهم الملك في إتخاذ قرارات السلم والحرب،كما أنهم يشاركون في إنتخاب الملك أو الحاكم إذا مات الملك أو الحاكم ولم يخلف له وريثا على العرش،وبالإضافة إلى المعبد والقصر فقد وجدت مكونات المدينة الأخرى مثل الأسواق والمساكن والطرقات والسجن والمحكمة،وأخيرا فإن ما يجدر ذكره أن كل دويلة مدينة تميزت بوجود قانون خاص بها وقوة من الجيش والحرس الملكي وحرس المعبد وحراس المحكمة.
ولقد بلغت حضارة بلاد الرافدين درجة عالية من الرقي،لأنها كانت تعتد بالقانون المكتوب في تنظيم العلاقة بين أبناء الشعب البابلي،حيث برع عدة فلاسفة ومفكرون في إبتداع مجموعة من القوانين المكتوبة التي كان منشأها الأعراف والتقاليد البابلية،والتي أرادوا من خلالها تحديد حقوق وواجبات المواطنين،بالإضافة إلى بيان صلاحيات الكهان والملوك والحاكمين ومجالس الشعب ومجالس المحاربين،إلاّ أن طبقة الكهان والملوك بقيت فوق القانون وليس لأحد أن يقاضيهما على إعتبار أنّ
مقاضاة أي منهم تعني مقاضاة للآلهة وهذا أمر محرّم ومرفوض .
وقد كان من أبرز قوانين البابليين،قانون حمورابي وهو (الأمير الذي بعثه الله أو الذي بعثته الآلهة ليقيم العدل) وهذا ما ورد في ترجمة مقدمة القانون،وقد أحتوى هذا القانون على 282 مادة إشتملت على جميع جوانب الحياة الإجتماعية والخدمية والإقتصادية والأحوال الشخصية والعقوبات،كما كان هناك قانون أشنونة وهو أسم إحدى العائلات الملكية التي حكمت بلاد الرافدين فترة من الزمن،وقد إشتمل هذا القانون على عدة أمور منها السياسي والإجتماعي والإقتصادي،والذي كان يهدف إلى تنظيم العلاقة بين الناس بمختلف طبقاتهم وبين القائمين على حكمهم.
ولقد إتسم المجتمع في حضارة بلاد الرافدين بالطبقية،حيث كان هناك طبقة الحكام والكهان تليها طبقة الأشراف ثم طبقة المحاربين وبعدها طبقة أصحاب المهن ثم الفلاحين وأخيرا الرقيق سواء كان الرق الدائم وهم سكان البلاد الأصليون أو الرق المؤقت وهم الأجانب الذين وقعوا في الرق بسبب الأسر أو لعروض التجارة.
ومن الملاحظ أن مجلس الشيوخ كان يتكون من طبقة الأشراف فقط،أما طبقة المحاربين فكانت تتألف من قواد الجيش،في حين أن باقي الطبقات لم يكن لها أي دور فعال في الحياة السياسية،أما طبقة الكهان فقد كانت عبارة عن حكومة قائمة بذاتها،وعندما تكون على إتفاق مع الملك أو الأمير فإنها بذلك تشكل دويلة مدينة قوية تفرض هيمنتها وسيطرتها وسلطانها على ما يجاورها من الدويلات،أما إذا كانت طبقة الكهان في حالة تضارب مصالح وأفكار مع الملك أو الأمير وحاشيتهما فإن دويلة المدينة تضعف وينشأ ما يسمى بالحرب الباردة،ولكن في النهاية يكون البقاء للأقوى وفي هذه الحالة هم طبقة الكهان مع مؤسستهم الدينية،لأنهم كما يزعمون هم الوسيط بين الآلهة والبشر وهم الوحيدون الذين يعطون الشرعية لحكم الملك.
ولقد كان نظام الحكم في بلاد الرافدين ذو مظهر ديمقراطي،حيث أنه يتألف من الملك ويشاركه مجلسان الأول هو (مجلس الشيوخ) ووظيفته إقتراح القوانين وإبداء المشورة للملك وإعلان الحرب وفرض الضرائب،كما كان لهذا المجلس قوة الإلزام على الملك في تنفيذ القرارات التي يرونها مناسبة حتى لو لزم الأمر بإقالة الملك نفسه على أن يؤازرهم في ذلك الكهنة،أما المجلس الآخر فهو (مجلس المحاربين) ويكمن إختصاصه في إبداء المشورة للملك في حال الحرب وفي عقد المعاهدات الخارجية وإعداد الخطط العسكرية وإستشارات حفظ الأمن الخارجي،ولقد كانت الديمقراطية في وادي الرافدين لا ينقصها إلا عملية الإقتراع المباشر من عامة الشعب،حيث بقي حق الإقتراع محصورا في فئة معينة من الناس وبوقت معين مثلما كان يحصل في مجلس الشيوخ على بعض الملوك من تعيين أو عزل،إلاّ أن من المظاهر التي كانت تدل صراحة على وجود نظام أقرب ما يكون إلى الديمقراطية بمفهومها الحديث هو اللامركزية في الحكم وأيضا القانون الذي بنيت عليه الدولة البابلية وكذلك إقرار مبدأ المشاركة في الحكم من خلال وجود مجلس الشيوخ الذي قيد سلطة الملك ونقلها من كونها ملكية مطلقة إلى ملكية مقيدة بقانون،وهذا يماثل بعض الأنظمة السياسية التي تعتمد على الملكية المقيدة (الدستورية) كأساس في تطبيقها للديمقراطية.
وأخيرا تجدر الإشارة أن دويلات المدن في بلاد الرافدين،إنتظمت بعد فترة من الزمن بدولة كبيرة كانت عاصمتها بابل،وعندئذ إرتبطت دويلات المدن هذه بملك واحد على أساس مبدأ الفدرالية حديثا،بحيث لا يستطيع الملك مباشرة الحكم على دويلات المدن إلا من خلال حاكم الإقليم،وقد كان لكل إقليم حاكم يتمتع بسلطة مباشرة على إقليمه ويؤازره في الحكم مجلسا الشيوخ والمحاربين بالإضافة إلى كبير الكهان،كما كان له جيش وحرس ملكي منفصل عن جيش الملك (حكومة المركز)،ولكن إنتهت قصة الديمقراطية في وادي الرافدين ببروز النزعة إلى الحكم المطلق عند بعض ملوك بابل والذين إستبدلوا نظام الحكم وجعلوه وراثيا كما صادروا الكثير من صلاحيات مجلس الشيوخ،ومع الزمن تقاذفت هذه الحضارة العريقة الحضارات المتاخمة لها ثم أفل نجمها بعد حوالي 6 آلاف عام.