الموت والفرح بالنهاية
حيرت فكرة الموت البشر، وأعجزت كل من سعى لفهم أسرارها، إلا من تواضع لله تعالى، حيث قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر 42)، فالموت عبارة عن انتقال روح الإنسان من الحياة في العالم الدنيوي إلى الحياة في العالم البرزخي، أي انتقال الإنسان من الحياة في عالم الشهادة إلى الحياة في عالم الغيب حيث الجنة والنار، والموت عبارة عن خروج النفس (الروح) من الجسد الإنساني خروجا نهائيا في الدنيا، أي انفصال الروح عن الجسد انفصالا يؤدي لتوقف أجهزة الجسم عن العمل، وهذا المعنى هو المعنى لحواس البشر في الدنيا، لأن الروح من أسرار الله في خلقه، حيث قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء 85)، والموت نراه بيننا كما نرى الحياة حقا لا شك فيه ولا مراء، وحقيقة قد أقر بها كل الخلق وخضع بها كل الجبابرة واستذل بها كل متكبر عنيد، فقد قضاها الله سبحانه على كل من في الأرض، ليعلموا قدر ضعفهم وانعدام حولهم وزوال قدرتهم، وليعلموا عظمة ربهم وقدرته وقيوميته سبحانه، كما أمرنا الله تعالى بتذكر الموت والتدبر في أثره والإستعداد له.
هذا ويظن كثير من البشر أن الموت عند الميت حادث يتسبب في حزنه وغمه، والحق هو أن الموت يكون سبب في حزن الميت إذا كان كافرا، لأنه سوف يتسبب في دخوله النار حيث العذاب المهين والأليم، وهذا العذاب هو ما يسبب الآلام والأحزان، حيث قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام 93)، كما وأن الموت يكون سبب فى فرح الميت إذا كان مسلما مؤمنا، لأنه سوف يتسبب في دخوله الجنة أين الملذات والمتع الدائمة، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر 27 – 30)، فالله يرضي المسلم عند الموت بإدخاله في زمرة عباده الذين في الجنة حتى يكون في حالة فرح دائم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أهو الموت؟ فكلنا يكره الموت، قال: لا يا عائشة، ولكن المؤمن إذا حضر أجله بشرته الملائكة برحمة الله ورضوانه، فيحب لقاء الله ويحب الله لقاءه، والكافر متى حضر أجله بشر بغضب الله وعقابه فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه)، ومعنى الحديث أن المؤمن إذا حضره الأجل بشرته الملائكة بالرحمة والرضا من الله، فيحب لقاء الله ويحب الله لقاءه، والكافر إذا حضره الأجل بشر بغضب الله وعقابه، فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه، فالمقياس ليس أثناء الحياة أن تحب الموت، لا، فهذا الكلام ليس واقعيا، فكل إنسان يحب الحياة، وهذا الشيء الواقعي والطبيعي.
وهكذا فإذا كان الموت فرحة للميت المسلم، فالواجب يحتم على الناس من الأهل والأصحاب أن يفرحوا لدخول الميت المسلم الجنة، والدليل على ذلك أن الله طالبنا ألا نخاف عليهم لأنهم اتبعوا الهدى، والخوف المرفوض هنا هو الذي يولد الحزن، وما دام المطلوب هو عدم الخوف والشجاعة التي تولد الفرح، فعلينا أن نفرح عند موت أي مسلم، وإذا كان الميت المسلم طبقا للنصوص لا يحزن عند الموت وهو في الجنة، فعلينا نحن أيضا أن نكون مثله لا نحزن على موته ونفرح، وهذا أمر لا يقدر عليه سوى القلة من الناس، طبعا الحزن المقبول هو المشروط بالحزن القلبي والبكاء الصامت والحديث الطيب، وما عدا هذا فهو حرام سواء من لطم الخدود أو شق الملابس أو الدعاء على النفس أو الغير، فحزن الإنسان على الميت القريب لقلبه لا يخرج عن قانون السبب، ويعبر الكل عن هذا بكلمة واحدة وهي (الفراق).
وفكرة الموت في الإسلام لا تقطع الحياة عن الآخرة كما يظن كثير من الناس، فيعتبرون الموت انقطاعا تاما وفراقا كاملا، بل إن الموت في الإسلام هو حاجز وممر بين الحياة الدنيا والآخرة، بل إن بعض الألفاظ الشرعية في وصف الموت تشعرك أنه وكأن هناك دارين بينهما حاجز وممر، أحدهما الدنيا والآخر هو الآخرة، وممرهما هو الموت، فيسمى الموت عندئذ بالبرزخ، ولفظة البرزخ أعم من القبر، فكل ميت وبأي شكل هو في برزخ، فالموت أشبه بمصفاة للخير عند المؤمنين الصالحين، فهم لا يفارقون صلاحهم ولا يتركون الخير الذي قدموه ولا ينقطعون عن الهدى والفضل، إنما الذي يفارقهم هو تبعة الإبتلاء الحياتي، وثقلة الجسد الدنيوي، ومسؤولية التكاليف التي سيسألون عنها، أما المتاع الصالح فلهم مثله وخير منه.
فكل شيء خلقه الله عز وجل له بداية وله نهاية، لكن الله قديم أزلي، هو الباقي الحي على الدوام، ليس له بداية، وليس له نهاية، وهذه الحياة المحدودة لها بداية ونهاية، وأن البداية لها مئة طريق مفتوحة أمامك، لكن النهاية لا يبقى أمامك إلا طريقان، طريق الجنة وطريق النار، فالإنسان أصبح زمنا، وهو بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، فالموت حقيقةٌ تنقلك إلى جنة الله عز وجل، تنقلك إلى الأبد، إلى السعادة العظمى المطلقة، ويجب أن تدخل مفهوم الزمن والموت في حسابك، فكل إنسان يعيش أيام محدودة معدودة تمضي سريعا، ثم سيواجه حسابا دقيقا، وسيواجه حياة أبديةً، فإما لجنة يدوم نعيمها، وإما إلى نار لا ينفذ عذابها، والناس الغافلون يعيشون غفلتهم ثم يموتون، وعندما ندخل الموت في حساباتنا اليومية تنعكس الموازين، لكن الحقيقة هي أن الملهيات الكثيرة حولنا، تنسينا الوقت والزمن كله.
الموت هو نهاية الحياة
كما هو معلوم لأهل الدنيا، ولكن هو بداية المسيرة الطويلة إلى أهل الآخرة، ولو كشف
النقاب لنا وكلمنا الموتى وسألناهم؟ ما هو أسهل شيء رايتموه؟ لقالوا لنا الموت
أهون شيء عندنا، لأنه بداية حياة جديدة في عالم الآخرة، فلابد لنا من الإستعداد
لذلك العالم الذي هو أبدي وأن نقدم الزاد لذلك اليوم، حيث قال الله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم
مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
(البقرة 110).
رابط المقال في مجلة تحت المجهر: