قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تجربة ناجحة لقدرة المدنيين على حماية أنفسهم من الجماعات المسلحة

تجربة ناجحة لقدرة المدنيين على حماية أنفسهم من الجماعات المسلحة
يكون المدنيون عادة بلا حول أو قوة في مواجهة المجموعات المسلحة، لكن لا يمكن محاسبة هذه المجموعات المسلحة قبل أن نحاسب الدولة، بل أكثر من ذلك، فحتى الانتهاكات التي تقوم بها المجموعات المسلحة، تؤول مسؤوليتها إلى الدولة التي فشلت في حماية السكان منها، وذلك لأن الفشل الأمني في مواجهة عمليات إرهابية يعتبر تقصيرا يدفع قادة الأجهزة الأمنية أو وزراء الداخلية إلى الإستقالة وتقديم الحساب في الدول الطبيعية، والتي تعرف معنى الدولة ومتطلبات السلطة عليها.

لكن بحث جديد تناول حالة مؤسسة نقابة الفلاحين والعمال في (كارير) كولومبيا، أشار إلى كيف طور المدنيون في هذه المنطقة آلية لتقصي الحقائق حول الاتهامات التي يتعرض لها من يعتبرون موالين أو متعاونين مع المجموعات المسلحة والتي تعرضهم لخطر التصفية، كما أثبت وقدم دليلا قاطعا على أن المجتمعات المنظمة يمكنها أن تعزز أمنها من خلال تطبيق إستراتيجيات لا عنفية مثل حل النزاعات أو إدارة العلاقات مع المسلحين، وبحث الخيارات التي يملكها المدنيون في الصراع.

حالة (كارير) بدأت في عام 1987 م، وذلك عندما اجتمع زعماء من عدد من القرى سرا للتباحث حول طلب إحدى الجماعات المسلحة من السكان، إما المشاركة في القتال مع هذه الجماعة أو الرحيل، وبعد التباحث بين الزعماء، وبالنظر إلى أن دعم أي مجموعة مسلحة سيعرضهم للخطر من قبل المجموعة الثانية، وإلى أن تسليح السكان لم يكن خيارا مناسبا، شكل هؤلاء مؤسسة نقابة الفلاحين والعمال للتباحث مع المسلحين، وأعلنوا لهم بأنهم يرفضون الخيارين المطروحين، لكن بعد عدة نقاشات ومباحثات وافق المسلحون على طلبات المؤسسة ولم يستطيعوا فرض القتال عليهم.
           
فلقد كان معظم القتل والعنف الذي يجري في هذه المنطقة يحدث إنتقاما من مدني تعتقد جهة مسلحة بأنه يساعد الجهة الأخرى، لهذا السبب شكلت المؤسسة (شبه محكمة) يقدم لها المتهمون، ولأن المؤسسة محلية فمن الطبيعي أن تكون لها قدرة أكبر على التحقق من الناس حول تهمة الشخص، حيث كانت المؤسسة تجري تحقيقاتها بعناية، وذلك بسؤال الناس ودراسة الوضع وفهم الملابسات وغيرها.

وهكذا نجحت هذه المؤسسة منذ تأسيسها في لعب عدة أدوار مختلفة، أهمها حماية المدنيين من الأذى، وذلك من خلال لجم المسلحين وأيضا منع السكان من المشاركة أو المساعدة في العمل المسلح، وقد كانت هذه هي القاعدة الأساسية والرئيسية، كما ولأن المشاركة كانت تعود بفوائد على البعض (فوائد مادية، حماية، سلطة بين الأقران،...) فإن توفير خيارات بديلة للسكان كان أحد أهم أدوات المؤسسة، وذلك من خلال توفير فرص عمل بديلة عن زراعة الكوكا (يصنع منها الكوكائين)، والتي تضعهم في خطر المواجهة أو التعامل مع المسلحين.

كما وقدمت المؤسسة مجموعة من الخدمات كان لها دور كبير في تعزيز موقعها التفاوضي مع المجموعات المسلحة، بحيث لعبت دور الوسيط في حالات التفاوض لتبادل الأسرى بين المجموعات المسلحة المختلفة، وفي حالات أخرى عملت على توفير ضمانات الحماية للمسلحين الذين يقبلون ترك السلاح والاندماج في المجتمع (الحماية من تصفيتهم من قبل أعدائهم في المجموعات الأخرى)، بالإضافة إلى أنها عملت في حالات عدة على تسهيل اتفاقيات وقف إطلاق النار.
     
تجدر الإشارة هنا أنه وبشكل عام يمكن القول إن الجماعات المسلحة تفضل عدم المواجهة المفتوحة مع أعدائها، ولذلك فإنها تعتبر قتالها ضمن المناطق المدنية ضروريا، إضافة ولكونها لن تستطيع الفوز بولاء السكان بشكل كامل، فإن تقليل عدد الضحايا الأبرياء (وبالتالي عدم معاداتهم بشكل كامل) سيبقى خيارا ثانيا مقبولا بالنسبة لها.

هذا ومع أن الكثيرين أكدوا على اللامبالاة المطلقة التي أبداها المسلحون تجاه حياة المدنيين، إلا أن أحد القياديين السابقين في إحدى الجماعات المسلحة أشار إلى نقطة هامة، وهي أنهم في البداية لم يعرفوا كيفية التعامل مع المدنيين، فهم من جهة يبحثون دائما عن طريقة لتقليل خسائرهم (القتال بين المدنيين وقتل المخبرين ... إلخ)، لكنهم من جهة ثانية قلقون من خسارة الدعم الشعبي لهم، ولذلك وبعد التعلم من طبيعة الحرب الأهلية يقتنع المسلحون بجدوى تسليم شؤون حفظ النظام لمجالس محلية إذا أثبتت هذه المجالس قدرتها على التنظيم.

حالة (كارير) تعتبر حالة مميزة لأنها توضح أنه حتى ضمن بيئة غارقة في العنف بدرجة كبيرة، يستطيع المدنيون حماية أنفسهم، وهكذا نجحت هذه المؤسسة في حقن الدماء لمدة طويلة بلغت عقدا من الزمن مقارنة بالأوضاع التي سبقت تأسيسها، حيث كانت نسبة الضحايا المدنيين قليلة جدا وذلك بالنسبة لعدد السكان، فيما لم يتوقف الضحايا المدنيون عن السقوط في المناطق الأخرى، والتي لم تشهد تشكيل مؤسسات مشابهة. 

لقد عملت هذه الدراسة على البحث بمنهجية في البيانات للتحقق من العوامل الأخرى التي قد تكون أسهمت في تحقيق هذه النتائج، وقد أثبتت نتيجة البحث على قدرة المدنيين على حماية أنفسهم في أسوء أوضاع الحرب الأهلية، وذلك من خلال التنظيم وصناعة القوانين المحلية والسعي لفرضها مدنيا، وهكذا لم يعتمد السكان على التدخل الخارجي ولم ينتظروا توقيع إتفاقيات على مستوى الدولة أو انتصار طرف على آخر، بل أخذوا على عاتقهم العمل على تطوير مجتمعاتهم على النحو الذي يضمن سلامة الناس.

وأخيرا نقول بأن السلام لا يمكن بلوغه بسهولة، إلا أن التجربة أثبتت أن العنف يتضاءل بفعل عوامل عدة منها جهود الوساطة والتوعية المدنية بأهمية السلام وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى تحفيز المسلحين على القبول بالشروط المدنية، لكن ذلك لا يقدم بأي حال ضمانات مطلقة، فقد تعرضت المؤسسة بدورها لضغوطات شديدة وشهدت عنفا في حالات مختلفة، لذلك فقد أدركت بأن الإستقرار يتطلب العمل الجماعي المتواصل على تحقيق الهدف، وهي بذلك تقدم مثالا مهما عما يمكن تحقيقه.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart