قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

بوصلة أردوغان للوصول إلى السلطة واستمراريته في الحكم

بوصلة أردوغان للوصول إلى السلطة واستمراريته في الحكم

الرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية التركية الحالي، كان جزءا من أعضاء حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، كما وكان أحد الأعضاء الأصغر سنا في هذا الحزب، النشيطين والمتعلمين والفاعلين، والذين فهموا عصرهم أكثر من الأجيال الأكبر سنا والمؤسسين الأقدم، ولذلك قدموا صورة أكثر إيجابية وحيوية للحزب، والذي بدوره استغلها واستثمرها واحتواها، حتى لو كان ذلك على مضض في كثير من الأحيان، ويمكن القول أن قائد هذه المجموعة من الشباب، والذي كان متحمسا للحكم والدخول في اللعبة السياسية للوصول إلى السلطة هو الشاب وقتها، رجب طيب أردوغان، حيث كان من أوائل الذين فهموا تماما أنه حتى النظام العلماني الأقل تطرفا، لن يقبل بأساليب أربكان الأكثر تقليدية إسلاميا للدخول في هذا النظام، وممارسة الحكم الإسلامي من خلاله، ثم تولي السلطة فيه وبعدها القضاء عليه.


لقد كان أردوغان يعيش في مدينة اسطنبول، وينحدر من عائلة فقيرة نسبيا وتعيش في بيئة محافظة دينيا، كما كان شابا قوي البنية وله شخصية قيادية وطموحة، وتطلعاته الأولى كانت أن يصبح لاعب كرة قدم محترف، لكن والده وجهه في الاتجاه الصحيح من البداية، حيث درس في مدارس المعرفة والمتحدثين التي أغلقها أتاتورك وأعيد فتحها تدريجيا بعد ذلك، وتعلم العلوم الإسلامية ومهارات التحدث والخطابة هناك، ثم تخرج بعدها من كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة مرمرة، وهذا ما سمح له بفهم واقع الناس واحتياجاتهم وتطلعاتهم، كما لم يكن شخصا منشغلا بالفكر والتحليل والنقد النظري، بل كان شخصا عمليا وفاعلا ونشيطا للغاية، مستغلا في ذلك مهاراته الشخصية والقيادية، والتي ساعدته على التميز بسرعة، وكسب ودّ واحترام الناس له.


ولهذا كله رشح حزب الرفاه في عام 1994 أردوغان لمنصب رئيس بلدية اسطنبول، وهو في الأربعين من عمره فقط، وهو ما شكل بالنسبة له دورا حاسما للغاية للاحتكاك المباشر بقضايا وهموم الناس في مدينته، ولكنه أيضا لم يكن دورا سياسيا بارزا بالشكل المتوقع منه، ومع ذلك ترك أردوغان فيه بصمة، حيث كانت اسطنبول مدينة مكتظة بالسكان ومليئة بالأحياء الفقيرة، وطابعها المميز كان تراكم النفايات وتأثرها المستمر بالكوارث الطبيعية والفيضانات، والتلوث ونقص الخدمات الأساسية من كهرباء وماء، وهنا بذل هذا الشاب كل جهده لتقديم أفضل صورة للإسلاميين والمحافظين، وفي غضون خمس سنوات فقط حقق إنجازات تاريخية لمدينة اسطنبول، والتي أصبحت تعد أهم مدينة في تركيا وواحدة من أكبر مدن العالم، حيث نجح أين فشل كل رؤساء البلديات السابقين، وأصبح بذلك اسمه في الأذهان وعلى ألسنة الجميع.


هنا كان النظام العلماني التركي عام 1999 في ذروة الخوف من هذا الرجل المتدين الصاعد، والذي كانت زوجته محجبة، وهو متخرج من مدارس دينية، ولديه أيضا مهارات التحدث والقيادة التي يمكن أن تسمح للناس باتباعه بشكل كبير، كما كان خصومه العلمانيون يبحثون عن أية فرصة سانحة للقضاء عليه، ولهذا قاموا بالعودة للأرشيف والعثور على شريط فيديو له، خلال إحدى الفعاليات بينما كان يقدم قصيدة تاريخية تقول: (المآذن حرابنا والمساجد قلاعنا، وإطاحة المساجد خيبات أمل جنودنا)، حيث تم إغراق وسائل الإعلام بهذه المعلومات للتخويف من شخصه وفكره، ثم وجهوا له تهمة التفريق بين الأديان ومعارضة النظام العلماني القائم، وحوكم وتعرض للاضطهاد لمدة أربعة أشهر، وبعد المحاكمة تم تجريده من وظيفته، ومنع من ممارسة الأدوار السياسية طوال حياته.


ظل أردوغان مخلصا لمعلمه وقائده أربكان طوال هذه الفترة، وذلك حتى مع الخلافات في الرأي إلى حين حلّ الحزب، حيث تم إلغاء حزب الرفاه في عام 2001، وهنا قرر أردوغان بالتنسيق المشترك مع الحزب، القفز من سفينة أربكان وترك حزبه، لأنهم كانوا يعلمون جميعا أن سفينة الحزب ستستمر في الغرق، وهكذا وبعد أقل من شهرين أسس حزب العدالة والتنمية، وساعدت كاريزما أردوغان وخبرته في تجنب العقبات السياسية للأحزاب الجديدة، مما جعل الحزب في العام التالي يشارك في الانتخابات ويفوز بأغلبية ساحقة، لكن طبعا لم يسمح لأردوغان بأن يكون رئيسا للحكومة بسبب محاكمته في عام 1999، وهنا تولى صديقه، عبد الله غول، رئاسة الحكومة، وذلك على الرغم من أن أردوغان كان مؤسس وقائد الحزب الانتخابي الفائز.


أردوغان هنا كان يعرف أن مفتاح السلطة في بلاده تتوزع بين الجيش المدافع عن المبادىء العلمانية، والقضاء والمحاكم التابعة للنظام العلماني، والأحزاب المتنافسة لتطبيق العلمانية بكل الأشكال، كما وأنه ليس لأحدهم منفردا القوة والقرار بأكمله بيديه، وذلك على الرغم من أنه ربما تكون بعض القرارات قومية بالفعل، لكن القرار ليس مستقلا ولا يمكن أن يتعارض مع النظام العلماني وإرادة الحضارة الغربية، لهذا قرر أردوغان أن يفعل هنا ما كان مستحيلا لأي سياسي إسلامي قبله، وهو أن يوجه البوصلة إلى الغرب، ومنه أخذ الضوء الأخضر للوصول إلى السلطة في بلاده، وبالطبع بينما لا يزال يعمل بالتوازي مع الرأي العام الداخلي في تركيا.


كما قلنا سابقا، فاز حزب أردوغان في تشرين الثاني 2002 بالانتخابات، وكان له الحق في تشكيل الحكومة لكنه منع قضائيا، إلا أنه وفي أذار 2003 أسقطت الحكومة مقاضاتها ضده، وسمحت له بأن يصبح رئيس الوزراء وأهم شخصية في البلاد، حيث أصبح أردوغان رئيسا للوزراء عن عمر يناهز 49 عاما، وقد احتفظ بهذا المنصب لمدة 11 عاما حتى أصبح رئيسا للبلاد بعدها.


أما السبب وراء إسقاط الحكومة للملاحقة القضائية ضده بعد خمسة أشهر فقط، هو أنه خلال هذه الأشهر الخمسة، ذهب بمفرده في جولة حول العالم للحصول على الاعتراف الدولي والضوء الأخضر لحكمه، حيث ذهب إلى أوروبا وتحدث مع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، وطرح معهم موضوع طلب انضمام تركيا إليه، ثم ذهب إلى الصين وروسيا، وأخيرا توجه إلى واشنطن، والتقى مع المسؤولين في كل هذه الدول كما وتم الاجتماع مع رؤسائها، وهكذا لما عاد أردوغان إلى تركيا وجد أعداءه في النظام العلماني القائم، والذين لاحقوه بسبب أسطر من أبيات للشعر، قد أسقطوا الملاحقة القضائية ضده، وذلك لأنهم كانوا مجرد دمى على خيط خارجي يتلاعب بهم ويوجههم كما يريد، وذلك لتحقيق مكاسب شخصية ومآرب خاصة بهم.


وهكذا وجه أردوغان البوصلة نحو الغرب، وأقنع قادة الغرب والشرق بإعطاء الأوامر للنظام العلماني في بلاده، وتحديدا النظام العسكري الحاكم على الأحزاب، والقضاء ومقاليد الحكم وكل شيء في تركيا، للسماح له بأخذ أعلى مناصب السلطة والحكم في هذه البلاد، وذلك رغم أنه من أصول وتوجهات إسلامية، حيث علم أردوغان أن الغرب ككيان هو الخط والجبهة الرئيسية المعارضة للإسلام، إلا أن لديه في نفس الوقت ما يتطلبه الأمر من التساهل والقوة للتحالف مع الإسلاميين عندما يكونون تحت السيطرة، ويعملون على تحقيق المكاسب وأكبر فائدة للغرب وإسرائيل في المنطقة، وهكذا تم الإعلان عن هذا الدعم وتوثيقه، وحتى الاعتراف به في أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول الكبرى في العالم.


طبيعة الأجواء في العالم في ذلك الوقت، جعلت أردوغان ذكيا بما يكفي لإقناع الغرب ودول العالم الأخرى بأنه سينجز الشروط المطلوبة، وهكذا تم سحب البساط من تحت أقدام النظام العلماني التركي، والذين كانوا الحلفاء التقليديين للغرب منذ الإطاحة بالخلافة، بحيث هؤلاء الآن سيتبعون أوامر أمريكا والغرب بدون سؤال، كما ولن يجرؤوا على اتهام أردوغان بالعمل مع الغرب، حتى لا يدفع ذلك الغرب إلى نشر وفضح جميع ملفاتهم وتعاوناتهم وحتى خياناتهم لبلدهم.


نجح أردوغان في حماية سلطته للحكم في تركيا طويلا، وذلك لأنه وصل إلى مستوى من القوة والشعبية لم يسبقه إليه أحد من الأفراد أو الأحزاب طوال تاريخ تركيا السياسي الحديث، لكن البقاء في القمة أصعب من الوصول إليها، ولهذا فإنه لحماية سلطته واستمرارها، عمل على حماية قوة العلاقات الخارجية التي أقامها مع الغرب خصوصا، لأنه كان عليه أن يثبت لهم دائما أن اختيارهم ودعمهم له كان صائبا وسليما، حيث حاول تقوية علاقته مع أمريكا والدول الأعضاء في الناتو، مستغلا في ذلك وجود قاعدة إنجرليك الجوية في جنوب تركيا، والتي كانت ذات أهمية استراتيجية كبيرة لأمريكا والدول الأعضاء في الناتو، حيث كان لها دور حاسم في تهديد الاتحاد السوفياتي سابقا بحرب نووية عندما كان الروس يهددون أمريكا بصواريخهم في كوبا.


كما وأيد أردوغان في بداية عهده بقوة قضية السماح لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما لم يسبق له مثيل من قبل جميع الرؤساء العلمانيين في بلاده قبله، ولم يكن هذا لأنهم لا يريدون الانضمام إلى الغرب أو الاقتراب منهم بالطبع، بل بالعكس لأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كان له ضريبة، وهي إيلاء المزيد من الاهتمام لحقوق الإنسان وغيرها من الأمور المتعلقة بالحريات والديمقراطية، وهذا لن يكون في صالح الجيش أو النظام العلماني القائم آنذاك، والذي كان يشن حربا على الدين (الإسلام)، ويقمع ويبطش بالمعارضين لمختلف الأسباب وبشتى الأساليب والطرق.


هذا وفي السنوات الأولى من حكم أردوغان كان يحسن العلاقات مع إسرائيل، وذلك للاستفادة من فشل محاولة أربكان قبله، لأن أربكان حاول قطع علاقته بإسرائيل والصهاينة في بداية عهده فتخلصوا منه، كما أن أربكان لم يلتق قط بأي مسؤول إسرائيلي وكان أتباعه فخورين بذلك، لكن أردوغان لم يتردد في مصافحة شارون الجزار، وكل ذلك لمحاولة أردوغان تصوير نفسه للغرب بأنه حليف موثوق به، وذلك لأنه كان يعلم أن السلطة بيد الغرب في البداية وليست بيد العرب أو المسلمين، وكان يعلم أنه إذا قام الجيش العلماني بإزالته كما فعل مع أربكان من قبله، فلن ينفعه لا كل العرب ولا المسلمين إلا بالكلام.


أما على الجبهة الداخلية فقد كان أردوغان في سباق مع الزمن لتأكيد سلطته في العديد من المواقف والمجالات، كما وفاز بقلوب وعقول الناس من جميع الأطياف من خلال الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والوفاء بالوعود للمحافظة على السلام في البلاد قدر الإمكان، مستغلا في ذلك خبرته من خلال دراسته للاقتصاد وعهده كرئيس لبلدية اسطنبول، كما وكان لديه فريق من المستشارين التكنوقراط، الذين كانوا مثاليين ومتعلمين وعمليين ومن مختلف التوجهات والأحزاب، والذين كانوا ينتظرون أية فرصة لإثبات أن الإسلاميين كأفراد وحزب قادرين على الحكم وتقديم المساعدة، ودفع البلاد إلى أفضل حالة ممكنة في مختلف المجالات.


كما وسحب أردوغان البساط من تحت العسكريين بسرعة وبدون استفزازهم، وأيضا بمساعدة القانون وحماية الشعب له، خاصة وأن الضوء الأخضر الذي حصل عليه من الغرب قد لا يدوم طويلا، وعمل على اختراق أجهزة المخابرات والإعلام وكافة مفاصل القوة في البلاد، ومن أجل ذلك كان يحفز رجال الأعمال الذين استثمروا فيه على التوجه نحو صناعة الإعلام خلال ذلك الوقت لدعمه، هذا وتجنب المشاركة في أي نزاع داخلي أو خارجي قدر الإمكان، وكان عليه أن ينقذ نفسه من كل هذه المشاكل ويراوغ، ويعمل على المزيد من الإصلاحات وترسيخها بأسرع ما يمكن، وتأجيل أي نزاع أو نقاش ديني أو اجتماعي أو ثقافي، حيث كان تركيزه على القضايا الكبرى وترسيخ حكمه في أقصر مدة ممكنة.


وأخيرا كان هناك المثابرة الصادقة من أردوغان بالمحافظة على تطبيق الأنظمة العلمانية والقومية، لأن هذه المعايير وضعها أتباع أتاتورك وتم ترسيخها في الدستور، لذا فإن عصيانها بأي حال من الأحوال سيكون بمثابة عصيان للدستور، ولن يبقى يوما في الحكم، علاوة على ذلك نشأت أجيال من الشعب التركي على هذه المعايير، لذلك حتى الأشخاص المتدينون في تركيا لديهم نسبة عالية من التشبع المفرط بالمثل القومية ومحاولة خلط القانون بالدين، لكن الشريحة الدينية التي لا تؤمن بالقومية في المقام الأول، ليسوا مضطرين حتى للضغط عليه، لأنهم يعرفون أنه متدين ويدعمونه منذ البداية.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart