الوحدة والانقسام في الأمة العربية والإسلامية والتصور الغربي عنها
اليوم وفي خضم الأحداث المتسارعة والتحديات المعقدة التي تواجه العالم
العربي والإسلامي، تبرز قضايا شائكة تتداخل فيها العوامل المحلية والإقليمية
والدولية، وهو ما يستوجب تحليلا موضوعيا ودقيقا لفهم طبيعة الصراعات والعلاقات
المتشابكة، والدور الذي تلعبه القوى الدولية والإقليمية في صياغة الواقع، كما وتأتي
قضية الهوية الوطنية والانتماء، إلى جانب التحزبات الطائفية والتأثيرات الخارجية
في صميم هذه الإشكاليات، حيث يقف العرب والمسلمون عند مفترق طرق في عالم تطغى عليه
التحديات والصراعات المتشابكة، ويعد السؤال حول انتماء الطوائف الإسلامية -
كالشيعة والعلويين والدروز وغيرهم - إلى جسد الأمة الإسلامية (السنية) من أشد
الموضوعات حساسيةً وتعقيدا، ولا يقتصر النقاش حولها على الجوانب الفقهية
والعقائدية فحسب، بل يتعداها إلى أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية أكثر عمقا،
تحكمها سياقات تاريخية متراكمة وإكراهات معاصرة.
وأمام هذا الواقع المعقد الذي يفرض
نفسه بقوة على مسرح الأحداث اليوم، فإن المنظور الغربي تجاه الأمة العربية
والإسلامية بشكل عام، ومن خلال الاطلاع على النظريات الاستراتيجية الغربية
والدراسات الأكاديمية والصحفية، يبدو واضحا أن هذا الغرب لا ينظر إلى هذه الأمة
كأمتين منفصلتين (سنة وشيعة) أو (عرب وعجم)، بل ككتلة واحدة تمثل "الحضارة
العربية الإسلامية"، ففي كتاب "صدام الحضارات" لصامويل هنتنغتون،
يتم تصنيف العالم إلى حضارات متصارعة، ومن بينها الحضارة العربية الإسلامية التي
تصور ككيان موحد مقابل الحضارة الغربية، ولا يتم التفريق داخل هذا التصنيف بين
الطوائف والمذاهب المختلفة، بل ينظر إلى الإسلام كمنظومة واحدة ذات تهديد مشترك.
هذا وبينما تتصارع الفرق المختلفة داخل
الأمة العربية والإسلامية، إلا أن العدو الخارجي ينظر إلينا ككتلة واحدة، كأمة
موحدة، ولكن يسهل استهدافها إذا ظلت متفرقة ومتصارعة، ومع ذلك نحن مازلنا نصارع ونقاتل
بعضنا البعض في الداخل، وهو ما يجعلنا أكثر ضعفا أمام مشاريع الإبادة الدينية والثقافية
والاجتماعية التي تهدف لتحويلنا إلى مجرد نسخ من الآخر، كما وعندما يتعلق الأمر
بالصراعات مع الآخر (الغرب الاستعماري)، يتم التعامل معنا كحضارة موحدة ذات مصير
مشترك، ما يعزز الرؤية الاستعمارية القديمة القائمة على الهيمنة، ولكن في الداخل للأسف
نجد انقسامات طائفية عميقة، خاصة بين السنة والشيعة، كما وإحدى المفارقات الكبرى
هي أن هذه الانقسامات ليست سوى عامل يستخدم لتبرير التدخلات الخارجية، حيث تصنف
الصراعات الطائفية كـ"حروب أهلية" بين سكان المنطقة، دون الاعتراف بدور
القوى الدولية في تأجيج هذه الصراعات.
التصور الغربي لنا ينبع من
استراتيجيات تاريخية طويلة الأمد، حيث لم تسعى القوى الاستعمارية في البداية إلى
تقسيم الأمة دينيا، بل جغرافيا وسياسيا واجتماعيا، كما حدث بعد انهيار الدولة
العثمانية عندما قسمت البلاد الإسلامية والعربية إلى دول بحدود مصطنعة بينها، ومع
ذلك استخدمت بعدها القوى الغربية الطائفية كأداة سياسية لتفتيت الأمة من الداخل،
كما حدث مثلا عندما تم دعم نظام الخميني الشيعي في إيران عام 1979م، وذلك بهدف
إثارة الصراع بين السنة والشيعة في دول الإقليم، دون أن يُنظر إليهما كأمتين
منفصلتين (إسلام واحد)، حيث أصبحت إيران بعدها تلعب دورا محوريا في المشهد
الإسلامي والعربي، وتسعى منذ قيام الثورة الخمينية إلى السيطرة على العواصم
العربية الكبرى كجزء من مشروعها الإمبراطوري، فبيروت، بغداد، دمشق وصنعاء، لم تكن
مجرد مدن وعواصم، بل هي رموز للسيطرة السياسية والديموغرافية التي تسعى إيران
الشيعية لتحقيقها.
كما أن الصراع السني الشيعي ليس مجرد
صراع ديني فقط، بل هو صراع سياسي متجذر في التاريخ، فالشيعة يرون أن الإسلام
"اختُطف" من آل البيت منذ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن
الأمويين والعباسيين أقصوهم عن السلطة، وهذا الاعتقاد هو ما يدفع الشيعة للتركيز
على تصحيح الإسلام حسب رؤيتهم، قبل مواجهة الأعداء الخارجيين مثل اليهود
والمسيحيين (الغرب)، ولذلك فإن مشاريعهم الكبرى كانت دائما موجهة للسيطرة على
عواصم الخلافة الإسلامية الكبرى، وذلك مع أن الأعداء المشتركين لنا لا يفرقون بين
الأطراف الإسلامية، سواء كانوا سنة أو شيعة، بل يسعون دائما إلى تحريض السنة ضد
الشيعة والشيعة ضد السنة وغيرهم عبر استغلال القضايا التاريخية والسياسية والدينية
- الطائفية المذهبية – للتفريق بينهم.
لكن يبقى السؤال: هل الطوائف مثل
الشيعة والعلويين والدروز جزء من الأمة الإسلامية؟ الجواب ليس بسيطا، فمن منظور
استراتيجي عالمي، نعم، هم جزء من الأمة الإسلامية، لأن العدو الخارجي لا يفرق
بيننا، لكن على المستوى الداخلي، هناك انقسامات عميقة تجعل تحقيق الوحدة أمرا بالغ
الصعوبة في ظل الظروف الحالية، والحل يبدأ بتوحيد الصف السني أولا تحت قيادات فكرية
ودينية واعية، ثم العمل على اختراق الفكر الطائفي المتشدد وتعديله تدريجيا، ورغم
صعوبة الموقف الحالي فإن هذا لا يعني استحالة اختراق الطوائف المتشددة أو تغيير
أفكارها من الداخل، والتاريخ يقدم أمثلة على تحول طوائف بأكملها أو تعديل أفكارها
مع مرور الوقت، وهذا ليس مشروعا قصير المدى، لكنه ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية
والدينية، وحتى ذلك الحين ستظل الأمة الإسلامية تواجه تحدياتها، لكنها تبقى في نظر
العالم الخارجي كتلة واحدة، وهذا في حد ذاته نقطة انطلاق للوحدة.
أما صراع هذه الأمة مع إسرائيل
وحلفائها من الغرب الأوروبي والأمريكي لا يقتصر على مواجهة سياسية أو عسكرية أو
ثقافية أو دينية عابرة، بل يمتد إلى مشاريع طويلة الأمد تستهدف وجودنا وهويتنا،
حيث أنهم يرون أن القضاء علينا، سواء بالإبادة أو بالتغيير الجذري لثقافتنا وديننا
وقيمنا، أمر لا بد منه، هذا وحتى اللحظة التي قد يظهر فيها تيار معتدل داخلهم يعيد
النظر في هذا الفكر الوحشي، يجب أن نبقى على حذر، ونفكر بشكل عملي واستراتيجي
لتحقيق مصالحنا المرحلية، وأي تحركات أيا كانت طبيعتها قد تضعف أعدائنا سوف تعد
مكسبا مرحليا لنا، شريطة أن تتماشى مع مصالحنا كمسلمين وعرب أو كدول تسعى للتحرر
من هذه الهيمنة، ولكن لا يجب أيضا أن نغفل أن هذه التحركات ليست هدفا نهائيا، بل
هي خطوات صغيرة في معركة طويلة.
ولكن للأسف يبقى العالم العربي
والإسلامي بين مطرقة الأنظمة العميلة وسندان الأطماع الإقليمية، حيث أن الأنظمة
العربية بمعظمها عميلة للغرب، ومرضيا عنها في المنطقة من قبل إسرائيل وداعميها بشكل
أو بآخر، حيث أن أهدافهم الأساسية جميعا هي بقاء هؤلاء الحكام على
عروشهم بأي ثمن، حتى لو كان ذلك يعني قمع شعوبهم بوحشية غير مسبوقة، كما أن دعم
أعدائنا وخصومنا لبقاء هذه الأنظمة يخدم استراتيجيتها الكبرى في إبقاء الجبهات حول
دولة الكيان (قريبة وبعيدة) مسالمة وهادئة، وذلك ما دامت مصالحها غير مهددة، ومن
هنا نفهم أن الصراع مع الأنظمة العميلة ليس مجرد معركة لإسقاط حكومات، بل هو معركة
لاستعادة سيادتنا على أوطاننا، ونحن بحاجة إلى حكام وقادة يمثلون تطلعات شعوب دول
هذه الأمة، وليس قادة وزعماء يعززون مصالح أعدائنا ويستنزفون ثرواتنا الوطنية
لتحقيق بقائهم على العروش.
ولهذا انطلقت شرارات الثورات العربية
لتحرير الشعوب من أنظمة مستبدة، حيث دعمتها الشعوب الحرة، بل وحتى بعض الأنظمة
الإقليمية لكن للأسف طمعا في تحقيق مصالحها الخاصة فقط، وذلك دون الدخول في
"هوس نظرية المؤامرة"، التي تستخدم أحيانا لتفسير كل الأحداث الجارية،
فإن الخلط بين نظريات المؤامرة والواقع الملموس يقف حائلا أمام قدرتنا على مواجهة
التحديات، نعم هناك تآمر علينا، ولكن الحل لا يكمن في الانغماس في نظريات شاملة
تفسر كل شيء بالمؤامرة، بل في فهم الواقع كما هو والعمل على تغييره بخطوات عملية،
ولهذا نحن بحاجة إلى وعي ديني وسياسي واجتماعي وثقافي يتجاوز الانقسامات الطائفية
والإقليمية ويضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، فالتغيير من الداخل يتطلب حوارا منظما
وخطة طويلة الأمد، والطريق طويل لكن البداية تبدأ من الداخل ومن إصلاح الذات،
وإيجاد من يمثلون الشعوب بحق وحقيقة، والعمل بخطة موحدة تهدف إلى تحرير الأرض
والحفاظ على الكرامة، وهذا الاختراق الفكري والعملي لا يمكن أن يحدث دون دعم قوى
(مؤسسات - منظمات - حركات - أحزاب - حكومات) إسلامية وعربية قوية تمثل الشعوب
وتتبنى مشروعا عربيا وإسلاميا موحدا وجامعا للكل في هذه الأمة.
وأخيرا يجب أن نعلم أن ما نحتاجه وبشدة
هو الوحدة الداخلية، وتجاوز الخلافات الطائفية، والعمل على المشتركات، والعدل في
المواقف والاعتراف بالإيجابيات حتى في خصومنا وأعدائنا، وذلك مثلما فعل الصحابة رضوان
الله عليهم في تعاملهم مع كفار قريش، وهم الذين
حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، حيث أمرنا الله تعالى بالعدل معهم
رغم بغضنا لأفعالهم، وبالتالي يجب
العدل في التعامل مع الجميع حتى في أشد الظروف، والعدل هنا لا يعني التخلي عن الموقف الحق تجاه الخطأ، لكنه يعني
الحكم بنزاهة، والقرآن الكريم يؤكد هذا المبدأ في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ" (المائدة
– 8)، وهذا المبدأ يجب أن يكون حاضرا في تعاملنا مع أي طرف داخلي أو خارجي، إضافة
إلى التفكير النقدي، والرؤية الشاملة، والابتعاد عن نظرية المؤامرة، وتحليل الأحداث بعقلانية، وفهم أن
الغرب يرانا أمة واحدة، لذا يجب أن نعمل على تعزيز هذه الوحدة بدلا من التفكك، كما
إن التحديات التي نواجهها ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة ووعي، وعندما
نتجاوز خلافاتنا ونركز على أهدافنا المشتركة، سنتمكن بإذن الله تعالى من بناء
مستقبل أفضل لأمتنا العربية والإسلامية.
