فقه الموازنات عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الزواج إلى الجهاد
زواج النبي صلى
الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث رضي الله عنها
من المعلوم أن
للزواج تبعات كثيرة تثقل كاهل الإنسان، ولكنه يقدم عليه لما يحقق له من مصالح
غالبا ما تكون شخصية، أما إذا أتينا لرسول الله عليه الصلاة والسلام فنجد الأمر
عنده مختلفا، فلم يكن الزواج عنده عليه الصلاة والسلام لغايات شخصية، وإنما كان
لغايات أسمى وأرفع، ولقد كان لكل زواج أقدم عليه النبي صلى الله عليه وسلم مصالحه
السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو التربوية أو الدعوية.
الزواج بأم
المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، تقول عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت
الحارث في سهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت
امرأة حلوة ملحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
لتستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت
أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن
أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فوقعت في السهم لثابت
بن قيس بن شماس أو – لابن عم له – فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي.
قال: فهل لك في خير من ذلك؟، قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابك
وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل
بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
لقد كان هذا
الزواج المبارك الميمون مع أن فيه تحميل النبي صلى الله عليه وسلم أعباء إضافية
فوق أعبائه التي تنوء بحملها الجبال، إلا أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه لما
يحقق من مصالح كبيرة منها: دخول قوم جويرية – بنو المصطلق – جميعا في الإسلام بعد
أن كانوا يعدون العدة للقضاء عليه، فكثر بهم سواد المسلمين وعزّ بهم الإسلام، كما
كان زواج جويرية – رضي الله عنها – سببا في إعتاق مئة أهل بيت من بني المصطلق من
رقّ الأسر والعبودية، فكانت – رضي الله عنها – أيمن امرأة على أهل بيتها، إضافة
إلى إكرام جويرية التي كانت سيدة قومها ورفع شأنها طمعا في إسلامها وإسلام قومها،
وهذا الإكرام تمثل في أن يصطفيها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، ولا يدعها لأي
واحد من أصحابه لما في ذلك من المهانة لها والإزراء بمكانتها، وهكذا جلب هذا
الزواج المبارك كما رأينا عدة مصالح: مصلحة شخصية لجويرية رضي الله عنها، ومصلحة
لقومها بتحريرهم من الرق وبإسلامهم، ومصلحة للإسلام والمسلمين كما رأينا، فأنعم به
من زواج.
سرية عمرو بن
العاص (ذات السلاسل)
جهز النبي صلى
الله عليه وسلم جيشا بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل (منطقة
جنوب الشام بالقرب من وادي القرى) لتأديب قضاعة التي تجمعت تريد الدنو من المدينة،
فتقدم عمرو بن العاص إليهم وقاتل المسلمون الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي
هربت وتفرقت وانهزمت.
لكن في هذه
الغزوة سأل أصحاب عمرو عمرا أن يوقدوا نارا فمنعهم، فكلموا أبا بكر، فكلمه في ذلك،
فقال: لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها، وعندما هزم العدو تفرقوا في الجبال،
فلما أراد أتباعه أن يتبعوهم منعهم، وفي هذه الغزوة أصابت عمرا الجنابة في الليل
فأشفق على نفسه من الهلاك لشدة البرد فتيمم وصلى بأصحابه، فلما انصرفوا ذكروا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك: فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا
فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد، وعندما سأله النبي صلى الله
عليه وسلم: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبره عمرو بأنه خشي على نفسه واستدل
بقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
ويذكر أنه في
هذه الغزوة الكثير من الموازنات، فعندما طلب الجنود من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد
النار لحاجتهم الماسة إلى التدفئة منعهم من ذلك معتمدا في ذلك على خبرته الحربية،
وعمق فكره العسكري، وخوفا من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد الضوء
فيكشف المسلمين، وهم قلة لأعدائهم فيهجموا عليهم، ويتجلى هذا الفقه في حزمه الشديد
مع أصحابه عندما كلمه أبو بكر في ذلك فقال: لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها،
وعندما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم وتتبع فلولهم، ولكنه
منعهم من ذلك لئلا يترتب على هذه المطاردة مفسدة أعظم منها، وهي أن يقع المسلمون
في كمين.
فعمرو هنا أعطى
الأولوية للمصلحة العاجلة المتيقنة على المصلحة المستقبلية الظنية، وهي التي قد
تتحقق عند لحاق الكفار، ورأى أن إشعال النار مصلحة ولكنها مرجوحة إذا قورنت بالمفسدة التي تتمثل
في معرفة العدو لعددهم، كما أن في فعل عمرو نظر في مآلات الأفعال، فإيقاد النار
مصلحة ولكنها تؤول إلى مفسدة تتمثل في كشف المسلمين للعدو مما يلحق الضرربهم
فمنعوا من ذلك، وكذلك اللحاق بالعدو للظفر بهم مصلحة ولكنها ربما آلت إلى مفسدة
تتمثل في وجود كمين يفتك بالمسلمين فمنعوا من اللحاق بهم.
هذا ويقول العز
بن عبد السلام رحمه الله عن التولي عن الزحف وعدم ملاحقة العدو: (التولي يوم الزحف
مفسدة كبيرة، لكنه واجب إذا علم أنه يقتل من غير نكاية في الكفار، لأن التغرير
بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية بالمشركين، فإذا تم تحصيل
النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام
أهل الإسلام، وقد أصبح الثبوت هنا مفسدةً محضةً ليس في طيها مصلحة).
وأما تيمم عمرو
وهو جنب ففيه مصلحة حفظ النفس من التلف والتي يسقط معها الغسل ليحل مكانه التيمم،
فالله لا يريد بالأمة العنت، وكان فهم عمرو لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن
الله كان بكم رحيما) صائبا وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، كما أن في
الامتناع عن الغسل نظر في مآلات الأفعال، فالغسل في ذاته مصلحةٌ ولكنه يؤول إلى
مفسدة أكبر تتمثل في تلف النفس، لذلك ترك عمرو الغسل واستبدله بالتيمم.