التحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان
المصادر القانونية للحق في التحقيق
إن الحق في الحصول على تحقيق سريع وشامل ومستقل ونزيه،معترف به في العديد من الآليات القانونية الدولية،كما أنه تم تكريسه أيضا في الإجتهاد القضائي الدولي.
1-المعاهدات الدولية والآليات المعيارية
والإعلانية
إن أكثر الإشارات صراحة إلى الحق في التحقيق الفوري والفعال والمستقل والنزيه،توجد في المعاهدات والآليات التي تحظر التعذيب وسوء المعاملة،كما هو الحال في المادة (12) من إتفاقية مناهضة التعذيب والتي تنص: (على أن تكفل كل دولة طرف أن سلطاتها المختصة تقوم بإجراء تحقيق سريع ونزيه كلما كان هناك سبب معقول للإعتقاد بأن عمل من أعمال التعذيب قد أرتكب في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية)،كما وقد أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول 2000 بتطبيق مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بالوسائل الفعالة للتحقيق في التعذيب.
كما أن الحق في التحقيق مضمون بشكل صريح أيضا في الآليات التي تتعلق بحالات الإختفاء القسري ولا سيما المادة (13) من الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري والتي تنص: (على الدولة أن تضمن لأي شخص لديه علم أو مصلحة مشروعة،يدّعي أن شخصا آخر قد تعرض للإختفاء القسري،الحق في تقديم شكوى إلى سلطة الدولة المختصة والمستقلة،والتي يجب أن تحقق في هذه الشكوى بشكل مباشر ونزيه وعميق)،وبالمثل فإن المادة (62) من إعلان وبرنامج عمل فيينا لسنة 1993 تؤكد (أن ثمة واجب على جميع الدول تحت أي ظرف من الظروف بفتح تحقيقات كلما وجدت أسباب تدعو إلى الإعتقاد بأن حالة من حالات الإختفاء القسري قد وقعت على أرض تخضع لولايتها القضائية).
كما يجب على الدولة أن تحقق أيضا في الإنتهاكات المتعلقة بالحق في الحياة وحق الفرد في الحرية والآمان،حيث يدعو المبدأ (9) من مبادئ الأمم المتحدة بشأن الإعدام خارج نطاق القضاء والإعدام التعسفي إلى أن يكون هناك تحقيق معمق ونزيه في جميع الحالات التي يشتبه فيها الإعدام خارج نطاق القضاء والإعدام التعسفي والإعدام الصوري.
وأخيرا فقد أوضحت آليات أخرى للأمم المتحدة أن واجب التحقيق ليس مرتبطا بالضرورة بقضية أو بإنتهاك محدد،ولكنه ينطبق على جميع الإنتهاكات،وعلى سبيل المثال توجب المادة (9) 5 من الإعلان بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان على (الدولة القيام بإجراء تحقيق سريع ونزيه أو السهر على فتح إجراءات عندما يكون هناك سبب معقول يدعو للإعتقاد بأن إنتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية قد حدث في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية).
2-الممارسة والإجتهاد القضائي
بالرغم من أن جميع معاهدات حقوق الإنسان لا تشير صراحة إلى الإلتزام بالتحقيق في الإنتهاكات،إلاّ أنه يستخلص بوضوح من التفسير المتفق عليه من طرف كل هيئات حقوق الإنسان،أن لجميع ضحايا إنتهاكات حقوق الإنسان الحق في تحقيق فوري وفعال ونزيه ومستقل في هذه الإنتهاكات،كما أن لهم الحق في الإنصاف الفعال،ولهذا فإن إجراء تحقيق شامل هو العنصر الأول من عناصر الإنصاف الفعال الذي يفرض إجراء تحقيق شامل للواقائع،وهذا ما أكده المقرر الخاص للجنة الفرعية لمسألة الإفلات من العقاب،والذي أعتبر واجب الدول في التحقيق في الإنتهاكات هو جزء من الحق في الحصول على إنصاف عادل وفعال.
- لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والإجراءات الخاصة بها
لقد أكدت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مرارا واجب الدول المتعلق بإجراء تحقيقات فعالة وشاملة ونزيهة في إدعاءات الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولا سيما الإعدام خارج نطاق القضاء أو الإعدام التعسفي أو حالات الإختفاء القسري أو التعذيب،كما أن توصيات مماثلة أدلى بها ممثلو الإجراءات الخاصة باللجنة مثل المقرر الخاص المعني بالتعذيب والمقرر الخاص المعني بالعنف ضد المرأة والمقرر الخاص المعني بإستقلال القضاة والمحامين والمقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء والإعدام التعسفي والصوري وفريق العمل المعني بحالات الإختفاء القسري.
- الهيئات المحدثة بموجب معاهدات الأمم المتحدة
أعلنت لجنة حقوق الإنسان سنة 1982 في تعليقها العام رقم (6) بشأن المادة (6) من العهد أن (على الدول أن تضع وسائلا وإجراءات فعالة للتحقيق الدقيق في حالات الأشخاص المفقودين والمختفين في ظروف قد تنطوي على إنتهاك الحق في الحياة)،كما قررت اللجنة في قضية دي الميدا دي كوانتيروص أنه يجب على الدولة أن تكشف ما حدث لشخص مختفي وأن تعمل على تأمين إطلاق سراحه،وقد ضمّنت اللجنة هذا الإلتزام بعد ذلك في الحق في الإنصاف الفعّال المكفول في المادة 2 (3) من العهد،وبالمثل أكدت اللجنة على ضرورة فتح تحقيق في إدعاءات التعذيب وسوء المعاملة،وذكرت بأنه (يجب على السلطات المختصة التحقيق في الشكاوى المرفوعة على الفور وبصورة محايدة ليكون الإنصاف فعالا)،وأوجبت اللجنة على الدولة التحقيق في إستخدام الشرطة للقوة بشكل مفرط،كما وأشارت اللجنة وبصورة منتظمة في ملاحظاتها الختامية بشأن تقارير الدول إلى واجب الدول إتجاه التحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان.
ومن جهتها فإن لجنة مناهضة التعذيب ترى أنه يجب التحقيق في كل إدعاءات التعذيب بسرعة وبصورة محايدة طبقا للمادة (12) من إتفاقية مناهضة التعذيب،أما لجنة القضاء على التمييز العنصري فقد أقرّت أن على الدول التحقيق على الفور وبصورة فعالة ومحايدة في أعمال التمييز العنصري،كما أنها شددت على أهمية دور الشرطة حيث ذكرت أنها ترغب في التأكيد على الأهمية التي تعلقها على واجب الدولة موضوع النزاع وجميع الدول الأطراف،بأن تسهر بيقظة ولا سيما عندما تفتح الشرطة تحقيقات سريعة وفعالة في الشكاوى المرفوعة،على أن يكون الحق في التحقيق مكفول بموجب المادة (5) مضموما لجميع الأشخاص تحت الولاية القضائية للدولة الطرف دون تمييز بين مواطنين أو أجانب.
- اللجنة والمحكمة بين الأمريكيتين لحقوق الإنسان
لقد أقرّت المحكمة بين الأمريكيتين في حكمها في قضية فيلاسكيز رودريغز (أن على الدولة واجب قانوني بإتخاذ إجراءات معقولة لمنع إنتهاكات حقوق الإنسان وإستخدام الوسائل المتاحة لها لإجراء تحقيق جدي في الإنتهاكات التي أرتكبت فوق إقليمها)،ولقد كرست المحكمة هذا الحكم في قضايا أخرى مماثلة،كما قضت بأن غياب التحقيق أو عدم فعاليته يشكلان إنتهاكا للحق في الحماية القضائية بموجب المادة (25) والحق في محاكمة عادلة بموجب المادة (8) وكلاهما ناجمان عن إلتزام الدولة تحت المادة 1 (1) من الإتفاقية،كما أوضحت المحكمة أن الإلتزام بالتحقيق والمعاقبة هو جزء من إلتزمات الدولة بمكافحة الإفلات من العقاب،والذي يفهم كإنعدام تام للتحقيق في الإنتهاكات ولمتابعة وإعتقال ومحاكمة وإدانة المسؤولين عن إنتهاكات الحقوق التي تحميها الإتفاقية الأمريكية،ولهذا فإن من واجب الدولة إستخدام جميع الوسائل القانونية المتاحة لها من أجل مكافحة هذا الوضع،لأن الإفلات من العقاب يشجع مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان على تكرارها ويكرس معاناة الضحايا وأقاربهم،وقد إعتبرت المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان في كل الحالات تقريبا أن غياب التحقيق يعتبر إنتهاكا للإتفافية.
وبالمثل أقرّت اللجنة بين الأمريكيتين أن على الدولة واجب التحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان،وكما المحكمة بين الأمريكيتين فإن اللجنة أيضا إرتأت أن واجب التحقيق هو وسيلة لمكافحة الإفلات من العقاب،ورأت أن واجب التحقيق وواجب مكافحة الإفلات من العقاب ينجمان عن المادتين (25) و (8) و1 (1) من الإتفاقية الأمريكية.
- المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية ماكان ضد المملكة المتحدة،أنه كلما كان هناك إدعاء بحدوث قتل دون وجه حق على يد أحد وكلاء الدولة فلابد من التحقيق في الوقائع،لأنه من واجب الدولة حماية الحق في الحياة،كما أنها إستنتجت في وقت لاحق أن الحق في الإنصاف الفعّال للضحية أو لأقاربه يمكن أن ينتهك إذا لم تكن هناك أي فعالية في التحقيق،وقد أقرت أيضا أنه كلما كانت هناك إدعاءات بالتعذيب أو بالمعاملة اللإنسانية أو الحط من الكرامة،فإن الحق في عدم التعرض لهذا التعذيب أو المعاملة يتطلب التحقيق المتمعن في هذه الإدعاءات.
- اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
أمرت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب الدولة فيما يتعلق بحالات الإختفاء،بإتخاذ الترتيبات اللازمة لفتح تحقيق مستقل من أجل توضيح مصير الأشخاص المختفين وتوقيف ومتابعة مرتكبي الإنتهاكات موضوع الدعوى،وفي حالات أخرى أمرت أنه يجب العثور على مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان ومتابعتهم قضائيا،وقد كانت القضية المتعلقة بإستغلال النفط في أوكوني لاند شمال نيجيريا ذات أهمية خاصة في هذا المجال،لأنها تتعلق بالإلتزام بالتحقيق في إنتهاكات الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية بما فيها الحقوق الجماعية،كما وتوصلت اللجنة الإفريقية إلى أن الدولة إنتهكت حقوق الأقليات المحلية عن طريق منح الإمتيازات لشركات النفط الأجنبية،لكنه وبعد العثور على إنتهاكات متعددة لحقوق شعب أوغوني دعت اللجنة الحكومة لضمان حماية البيئة والصحة ووسائل العيش لشعب أوغوني،وذلك من خلال السماح بحرية وصول المواطنين والمحقيقين المستقلين إلى الإقليم للتحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان ومحاكمة المسؤولين من قوات الأمن وغيرهم من الوكالات المرتبطة بإنتهاكات حقوق الإنسان وضمان تقييم الآثار البيئية والإجتماعية لأي مشروع مستقبلي لإستغلال المنتجات النفطية،كما أكدت أنه يجب أن تكون سلامة أي مشروع لإستخراج النفط مضمونة من خلال هيئات رقابية مستقلة عن صناعة النفط،وهكذا يمكننا القول بأن اللجنة الإفريقية تقر بواجب التحقيق في إنتهاكات الحقوق المدنية والسياسية فضلا عن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية كإلتزام يفرضه الميثاق الإفريقي.