النخب العربية هم يهود البلاط الجدد
أصبحت السياسة والحياة السياسية في معظم أقطار العالم العربي أمرا
يبعث على القلق، فما يسمى بالنخبة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية في عالمنا العربي اليوم
ليست نخبة بالمعنى العلمي المتداول للكلمة، ولكنها في أغلب الأحيان عبارة عن
مجموعة من البشر وقع عليهم اختيار الحاكم وصاحب القرار لشغر مناصب مختلفة لأوقات
محددة ولأسباب لا تعود إلى مؤهلاتهم أو تاريخهم أو حتى قاعدتهم الجماهيرية
بقدر ما تعود لظروف وأسباب تتعلق بالحاكم نفسه وتتناسب مع مزاجه أو متطلباته
ومتطلبات المرحلة، إضافة إلى قدرة أولئك المختارين على خدمة تلك المطالب وتنفيذها دون أي
اعتراض أو احتجاج أو حتى تساؤل.
ومن هنا فإن تعيين أحد ما في منصب ما أو إقالته منه يجابه في معظم
الأحيان بالاستغراب نظرا لغياب الأسس العلمية أو
الموضوعية لمثل ذلك التعيين أو تلك
الإقالة، لهذا فإن ارتباط التعيين أو الاقالة برغبات الحاكم أو أجهزته يجعل من
الشعب عموما رهينة لتلك المنحة المقتصرة على الحاكم نفسه والرغبة الدفينة في الحصول
عليها من قبل المحكوم وحده، حيث إن هذه المعادلة تشكل نواة الخلل الحقيقي في العلاقة
بين النظام والشعب، وذلك من خلال احتكار النظام لسلطة منح وحجب الألقاب والمناصب
ورغبة الآخرين في الحصول عليها.
وهذا ما عمل طيلة سنوات ماضية على تحويل بعض قطاعات النخب الحاكمة في السياسة والإقتصاد والثقافة في العالم الثالث
إلى جماعات وظيفية (عميلة) تعمل لصالح الإمبريالية أو النظام العالمي الإمبريالي
الجديد الغربي بعلم أو بدون علم منها، فهؤولاء يمكن إستيعابهم من خلال الشبكة السياسية والإقتصادية
والثقافية العالمية الضخمة (شركات متعددة الجنسيات ـ مؤسسات بحوث ـ مؤتمرات علمية
ـ مشاريع بحثية مشتركة - منظمات المجتمع المدني... إلخ)، وهذه القطاعات يتم عزلها عن مجتمعاتها بحيث تصبح
غريبة عنها، فتكون داخلها ولكنها ليست منها، ويمكن حتى أن تكون العزلة فعلية كأن يعيش
أعضاء هذه القطاعات في منازل توجد على أطراف المدينة أو في أحياء خاصة ذات طرز
معمارية معينة (عادة غربية) ويرتدون أزياء وملابس غربية ويتحدثون بالإنجليزية أو
العربية المطعمة بالإنجليزية، كما أن شبكة المصالح العالمية تستوعبهم فتصبح
مصالحهم السياسية والإقتصادية مرتبطة بالآلة العالمية وبإستمرارها وبإستمرار مؤسساتها
المتنوعة.
ولكن هذه العزلة يمكن أن تتم بشكل أكثر تبلورا وتركيبا فتأخذ طابعا نفسيا،
بحيث يحس من ينتمي إلى هذه النخب بالعزلة عن مجتمعه وبعدم التجذر فيه وبالغربة عنه، ويحس عضو هذه النخبة بعدم الإنتماء لبلده، كما أنه ينظر إلى أهله ومجتمعه بنظرة دونية
لأنه يشعر بتخلف المجتمع الذي يعيش فيه وبحاجته إليه (مركب الشعب المختار)،
كما أنه يمارس هذا الشعور عادة بسبب إيمانه بأيديولوجيا تجسد نماذج معرفية وسياسية واقتصادية وأخلاقية مستوردة ومتحيزة ضد واقعه المعاش والحقيقي، ورغم أنه قد يتحدث بلغة بلده وشعبه، إلا أن
خطابه السياسي يبدأ في التحول التدريجي حتى لا يفهمه سوا جماعته (محيطه) ويصبح أداة للعزلة
عن الجماهير لا للتواصل معها.
ولا شك في أن أعضاء هذه الجماعة (النخبة) يتسمون بحركية شديدة، وكل هذا يجعلهم
كيانات مجردة وأدوات قمع في نظر مجتمعاتهم، تماما كما أنهم لا ينظرون إلى مجتمعاتهم بإعتبارها كيانات حية ينتمون إليها، فهم ينظرون مثلا إلى المزارع بإعتباره عبئا ثقيلا لابد من التخلص منه ومشكلة تحتاج للحل، وهؤولاء
النخب يشبهون في كثير من الأحيان يهود البلاط الذين كانوا يشكلون جماعة وظيفية
تقف بين عالمين (عالم اليهود وعالم الأغيار)، جماعة تتعامل مع كليهما بكفاءة دون
أن تنتمي لأي منهما، ولذا فإن أعضاء هذه الجماعة يعيشون في عدم طمأنينة ويحاولون
إرضاء أسيادهم في الداخل والخارج قدر إستطاعتهم عن طريق الخضوع لقوانينه، ولكنهم في الوقت نفسه لا
يمكنهم الإنضمام له تماماً لأن وظيفتهم تتطلب منهم أن يطوروا مجتمعاتهم حتى يمكن
إدخالها إلى النظام العالمي، ولكن شرعيتهم وقوتهم تظلان مستندتين إلى القوة
الإمبريالية.
وقد وصف أحد علماء الإجتماع يهود البلاط بأنهم (مخصيون لم يتم خصيهم)
وهو وصف دال أيضا لأعضاء النخب السياسية والإقتصادية والثقافية في العالم العربي الذين تم
إعادة إنتاجهم على هيئة جماعة وظيفية عميلة تخدم النظام الإمبريالي العالمي
الجديد، حيث أن النظام العالمي الجديد والمتمثل بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ينطلق من إدراك الدول الغربية صعوبة
المواجهة العسكرية والأيديولوجية الواضحة مع شعوب العالم الثالث (وخصوصا الشعوب
الإسلامية)، وإدراكها أيضا ظهور نخب محلية على إستعداد كامل للتعاون معها
والقيام على خدمتها، لهذا قررت أن تلجأ إلى التفكيك الداخلي (من خلال النخبة المحلية
العميلة) بدلا من المواجهة المباشرة من خلال الجيوش وآليات الحرب التقليدية
الأخرى.