العقلية المريضة للطغاة بين غرور الإجرام وأوهام الخلود
الرؤية الدينية الفلسفية العميقة
لمغزى الحياة وغاية الوجود الإنساني، تقول بأن السعي وراء الشهرة التاريخية - سواء
بالخير أو الشر - هو ضرب من العبث، لكن الطاغية الحاكم يعتقد بأن الخلود المأمول هو
في ذكرى الناس، بينما الخلود الحقيقي هو في ذلك اليوم الذي يقف فيه أمام ضحاياه،
فردا فردا، كل قتيل يطالبه بحقه، كل معذب يشكو ظلمه، وذلك حتى تصير المحاكمات - التي
لا يعلم حجمها إلا الله تعالى - سلسلة لا تنتهي من المواجهات، وهنا سوف يظهر
للجميع أنه لا قيمة لتمجيد التاريخ أو شتمه لهؤلاء، وذلك إذا كان المصير إلى حكم
العدل الإلهي، حيث قال الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة 6 - 8).
الخلود الحقيقي ليس في ما يقوله البشر
والحجر والتاريخ عنك، بل فيما يكتب من أعمالك في كتاب لا يضل ولا ينسى، كما أن الحقيقة
الجوهرية هي أن كل هذا السعي الدنيوي للخلود عبر السمعة التاريخية - سواء طيبة أو
سيئة - هو مجرد وهم، حيث كان الرد الذكي لأحد الزعماء عندما سُئل عما سيكتبه
التاريخ عنه فقال: "عندما يأتي التاريخ سنكون أمواتا"، وهذه الإجابة
التي يُعتقد أنها تدل على الغباء، هي في الحقيقة تعبر عن الحكمة الجوهرية التي
مفادها أن الموتى لا يتأثرون بمدح التاريخ أو ذمه، إذ أننا لم نأت إلى هذه الدنيا
إلا كروح نزلت من عالم الذر إلى أجساد مؤقتة في مرحلة اختبار عابرة، وكلها أدوار
مؤقتة تنتهي بالموت حيث تعود الأرواح إلى بارئها للحساب على ما قدمت من أعمال،
بينما تبقى السير التاريخية مجرد كلام بين الأحياء لا ينفع الميت ولا يضره.
لكن ديدن كل طاغية هو أنه لا يفكر إلا
في كيفية البقاء في السلطة، و"تخليد" اسمه في التاريخ، وضمان دفن فاخر
وجنازة مهيبة، وحتى عندما تخطر بباله الآخرة، فإنه يتصورها -بغروره- امتدادا لملكه
الدنيوي، وكأن الله تعالى سيسخر له الجنة كما سُخرت له الأرض! فهو يرى نفسه محور
الكون، في الدنيا بسلطته، وفي الآخرة بضمانة وهمية من ربه! لكن الحقيقة المرّة
التي يغفلها هي أن يوم القيامة ليس يوم تكريم، بل يوم وقوف أمام الضحايا الذين
سيقتصون من هؤلاء فردا فردا، وهنا لا قيمة لكل الكلام والمدح والتماثيل والجنازات
الفاخرة إذا كان المصير جهنم وبئس المصير، حيث يقول الله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
(عبس 33 – 37)، لكن الطغاة يبنون أوهام الخلود في الدنيا، وينسون أن الخلود
الحقيقي هو في الآخرة.
الدنيا في عقل الطاغية هي الملك
الحقيقي، والتي هي مسرح الأطماع والشهوات حيث الصراع دائم بين "الخير"
(وهو هواه) و"الشر" (كل من يعترضه)، فهو يعيش لتحقيق انتصارات آنية،
يبررها بمنطق "ما دمت قادرا على فعل شيء، فهو حقي"، وذلك حتى السرقات والمجازر
تصير مجرد خطوة في "لعبة البقاء" التي يستمتع بها كرئيس عصابة إجرامية يخاطر
بحياته يوميا ليشعر بـ "نشوة الانتصار" على الآخرين، وهذه العقيدة
الوجودية الفاسدة تجعله ينظر لكل أشكال ضحاياه كأرقام في معادلة صفرية (إما أنا أو
هم)، ولا مكان للرحمة أو الرأفة في قلب اعتاد على كل الموبقات، فهؤلاء الطغاة يرو
أن جرائمهم مجرد "ثمن عادي" للسلطة والحكم، أما الموت ومصيره بعده فلا
مكان لهما في عقولهم! كما أن الآخرة في مخيلته ما هي إلا "ضمانة سهلة"!
يتوهم أن الله تعالى سيمنحه الجنة كما منحه السلطة، وكأن العدل الإلهي سيُحاكي
أهواءه، وذلك حتى عندما يسقط شركاؤه وأمثاله واحدا تلو الآخر قبله، لا يتعظ أبدا بل
يزيد طغيانا وظلما، معتقدا أن المزيد من النهب والدماء ستحميه، وهؤلاء للأسف لا
يغيرون مسارهم وطرقهم، وذلك لأن الطغيان صار هويتهم كالوحوش الضارية التي تزداد
شراسة كلما أريق الدم.
ويكشف هذا التحليل عن العقلية المريضة
للطغاة الذين يسعون بكل جهدهم لتحقيق الخلود الدنيوي عبر التمسك بالسلطة وترك بصمة
تاريخية مزيفة، حيث ينحصر تفكيرهم في كيفية ترسيخ أسمائهم في سجلات التاريخ وبناء
التماثيل الفاخرة وضمان جنازات مهيبة، بينما يغيب عن أذهانهم تماما أي اعتبار للمصير
الأخروي، بل إن بعضهم - إن آمن بالله تعالى أصلا - يتوهم بطريقة شبه كفرية أن
النجاح الدنيوي دليل على رضا الله المطلق، فيتصور أن الجنة مضمونة له بحكم موقعه
الدنيوي، وكأن القدر الإلهي مُسخر لخدمته في الدنيا والآخرة! وهذه النزعة النرجسية المفرطة تجعلهم
يعتبرون الآخرة أمرا سهلا ومفروغا منه، بينما يرون أن الصراع الحقيقي هو في كيفية
سحق المخالفين والمعارضين والتمسك بالملك الدنيوي (السلطة)، غير مبالين بذلك اليوم
العصيب الذي سيقفون فيه بين يدي الله تعالى ليحاسبوا على كل دم سفكوه وكل حق
سلبوه، حيث لن تنفعهم حينها كل التماثيل والجنازات والمآثر المزورة التي أعدوها
لأنفسهم في هذه الدنيا الفانية.
كما ويكشف هذا التحليل النفسي العميق أيضا
عن العقلية المكيافيلية لهؤلاء الطغاة وزعماء العصابات، والذين يعيشون وفق مبدأ
"القوة تصنع الحق - "Might makes right، حيث ينطلقون من فلسفة وجودية قائمة على الصراع الدائم، فيعتبرون
القدرة على تنفيذ الإرادة - بغض النظر عن عدالتها - دليلا على صحتها، تماما كما
يرددون بالإنكليزية Because I can" - لأنني أستطيع"، وهذه العقلية المرضية تجعلهم يستمتعون بهذه المغامرات الدموية وبإهدار
أرواح الآخرين بلا رحمة وبلا رقيب أو حسيب، إذ يرون هذه الحياة كما قلنا سابقا مجرد
ساحة صراع بين الخير (الذي يمثلونه هم!) والشر (الآخر!)، حيث يجدون معنى وجودهم في
إطالة أمد الصراعات وتحقيق "نشوة الانتصار" المؤقتة، والغريب أنهم رغم
تهورهم هذا والذي يعرض حياتهم للخطر يوميا، إلا أنهم أبعد الناس عن التفكير في
الموت الحقيقي أو الحساب الأخروي، بل يعتبرون الموت - إن جاء - مجرد نهاية
"بطولية" لحياة مليئة بالتحديات والانتصارات، دون أي اعتبار للدماء التي
سفكوها أو الأسر التي دمرها طغيانهم، وذلك في مأساة إنسانية تجسد عمق الانحطاط
الأخلاقي لهؤلاء، وهو عندما يتحول الإنسان إلى وحش كاسر لا يعرف من الحياة سوى لذة
السيطرة والقتل والتدمير.
وهكذا يكشف هذا التحليل العميق لعقلية
الطغاة الحكام (زعماء العصابات) عن نمط فكري مرضي يتجاوز الأفراد إلى المجتمعات،
حيث تسود فلسفة وجودية تقوم على الصراع الدموي كمحرك أساسي للحياة، وهذه العقلية
تتبنى مبدأ "البقاء للأقوى" وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية أو
دينية أو أي قيمة وجودية، كما وتجعل من القتل والتعذيب والتشريد والسرقة والظلم مجرد
أدوات عادية لتحقيق الغاية المرجوة منهم، إذ ينظر هذا الطاغية إلى خصومه - بل إلى
البشر جميعا - كأرقام في معادلة صفرية، لا ككائنات أو حتى كبشر تمتلك مشاعر وأسرا
وحقوقا، بل والمأساة أن هذه السيكوباثية أصبحت متجسدة ومتجذرة في فئة أو طبقة هؤلاء
الزعماء الحكام الذين وصلوا إلى السلطة عبر الغش والخداع والتزوير والتحدي
والصراع، وصار العنف جزءا لا يتجزأ من هويتهم، بحيث أن كل جريمة يرتكبونها لا
تزيدهم إلا تمسكا بمنهجهم الدموي، وذلك دون أدنى تفكير في المراجعة أو التغيير، إذ
يعتبرون التراجع ضعفا والرحمة خيانة.
أخيرا وفي خضم هذا الكابوس الإنساني
الذي نعيشه اليوم في كثير من البلاد في هذا العالم، يبرز لنا عمق نعمة الهداية
الإلهية التي تحفظ للإنسان إنسانيته، فليس هناك أغلى من أن يظل المرء بعيدا عن
دوامة العنف هذه، حافظا لضميره ودينه، حتى وإن كان في "قاع" المجتمع،
لأن النجاة الحقيقية ليست في السلطة الزائلة، بل في السلامة الأبدية، والحمد لله
الذي عافانا من هذه القلوب المتحجرة، وجعلنا ندرك أن الحياة ليست صراعا دمويا، بل
اختبارا للرحمة والعدل، وليكن حظنا من هذه الدنيا القاع، والمهم أن نحتفظ بإيمان
ينجينا يوم القيامة، حيث يقول الله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج 4 - 7).