طبيعة علاقة التبعية بين الغرب وإسرائيل
- الرؤية
الشاملة لمواجهة المشروع الصهيوني الغربي -
تحليل العلاقة بين الصهيونية
الإسرائيلية اليهودية والغرب الأوروبي والأمريكي المسيحي، يظهر لنا أن هناك وجهتا
نظر حول طبيعة هذه العلاقة المعقد من التبادلية والتبعية، فالأولى ترى أن هناك
سيطرة من اليهود على أهم مراكز القرار الغربية، وذلك عبر الشخصيات النافذة، والمنظمات
السرية والهيمنة المالية والإعلامية، بينما الثانية تؤكد أن الغرب يستخدم
الصهيونية كأداة لتحقيق مصالحه الاستعمارية وإقامة قواعده العسكرية في المنطقة، وتشير
الأدلة التاريخية إلى صحة الرأي الثاني، حيث ظل اليهود مضطهدين في الغرب لقرون،
ولم ينجح المشروع الصهيوني اليهودي إلا بعدما تبنته القوى الغربية (بريطانيا)، كما
أن إسرائيل تعتمد كليا على الدعم الغربي عموما وتخضع للقرار الأمريكي النهائي.
هذا وتشير الأدلة إلى طبيعة تبادلية في هذه العلاقة، لكن مع تفوق واضح
للغرب (أمريكا) الذي يحتفظ بزمام المبادرة والقدرة على كبح جماح المشروع الصهيوني اليهودي عندما تتعارض مصالحه معه، إذ لو كانت اليهودية قوية بذاتها لما احتاجت قرونا من الانتظار حتى حظيت بدعم غربي، ولو
كان الغرب ضعيفا أمامها لما استطاع فرض إرادته عليها عند الضرورة، وهكذا تثبت
الوقائع أن إسرائيل، رغم ما تبدو عليه من قوة، تبقى في النهاية أداة في يد القوى
الغربية الكبرى، تتحرك في الإطار الذي ترسمه لها، وتخضع للضغوط عندما تتعارض
سياستها مع المصالح الغربية العليا.
وهكذا تتميز العلاقة بين الغرب
وإسرائيل بطبيعة تبعية واضحة، حيث يظل الغرب بقيادة أمريكا الطرف الأقوى في هذه
المعادلة، بينما تؤدي إسرائيل دور الأداة لتحقيق المصالح الغربية في المنطقة، إذ
أن الدعم المقدم لها ليس انسياقا أعمى بل استثمارا استراتيجيا مدروسا، حيث تتجلى
هيمنة الغرب سياسيا عبر قدرته على فرض شروطه العامة وخطوطه الحمراء في المنطقة،
واقتصاديا من خلال التحكم في طبيعة الاستثمارات والمساعدات المالية والعسكرية
المقدمة، وأمنيا بتغاضيه عن الاعتداءات التي يقوم بها في الإقليم، إضافة إلى
تغاضيه حتى عن بعض هجمات الصهاينة ضد مصالحه أو عن أنشطة التجسس الإسرائيلية ضده،
وهكذا يظهر التاريخ أن المشروع الصهيوني لم يكن ليرى النور دون الدعم الغربي، وأن
الغرب قادر على كبح جماحه عندما يشاء.
كما وتكشف التحليلات العميقة للعلاقة بين الغرب وإسرائيل عن تناقضات
صارخة تجمع بين الأسس الدينية والمصالح الجيوسياسية الدولية المتشابكة، حيث يدعم
التيار الإنجيلي البروتستانتي المسيحي (الذي يشكل نسبة كبيرة ووازنة من
الأمريكيين) الكيان الصهيوني بدوافع عقائدية ترتبط بمعتقداتهم حول نزول المسيح، بينما
يستخدمها التيار التقليدي المسيحي كأداة لضرب العرب والمسلمين، وبهذا يستغل الغرب
إسرائيل كأداة لتحقيق مصالحه الاستعمارية العنصرية في المنطقة، وهذا بدوره يؤكد أن
اليهود لا يمكن أن يكونوا قوة مهيمنة بدون دعم خارجي.
وتأسيسا على طبيعة علاقة التبعية بين الغرب وإسرائيل، يتبين أن الغرب
لن يتخلى عن دعم الكيان الصهيوني نظرا لتلاقي المصالح الجيوسياسية مع الرؤية
الدينية والعقائدية، فضلا عن الاستراتيجية الاستعمارية طويلة المدى، حيث تبقى
إسرائيل - رغم مظاهر استقلالها الظاهري - مجرد أداة في يد القوى الغربية، كالسرج
في يد الفارس يحركه كيف يشاء، حسب التعبير الاستراتيجي الدقيق، وذلك على الرغم من الاستهانة
العلنية التي يظهرها بعض القادة الإسرائيليون تجاه المسؤولين الغربيين، فإن الدعم
الأمريكي والأوروبي غير المشروط لدولة الكيان يستمر، مما يكشف عن مفارقة تاريخية
تتمثل في دعم هذه الديمقراطيات الغربية لدولة عنصرية يهودية تنتهك كل المبادئ التي
تدّعي الدفاع عنها، وهذا التناقض الجوهري بين المبادئ المعلنة والمصالح الخفية
يجعل عواصم الغرب وخاصة واشنطن تحتفظ بالقدرة على التحكم في هذا المشروع الصهيوني
متى شاءت.
لذلك فإن المواجهة الحقيقية مع هؤلاء تتطلب فهما شاملا لهذه العلاقة
التبادلية، وعدم الوقوع في وهم أن الصراع مع كيان مستقل (إسرائيل)، بل هو جزء من
مشروع استعماري أوسع، كما يجب فضح هذا التناقض الغربي في المحافل الدولية، وتحويل
القضية من صراع محلي إلى قضية عالمية ضد العنصرية والاستعمار، مستفيدين من أي
خلافات تظهر في هذه العلاقة غير المقدسة، فهذه الرؤية الشاملة وحدها قادرة على
تقديم استراتيجية واقعية لمواجهة المشروع الصهيوني اليهودي الذي يجمع بين الدوافع الدينية والمصالح الاستعمارية في إطار واحد.
كما يجب التخلص من الأوهام الخطيرة حول إمكانية إقناع الغرب بعدالة
القضية الفلسطينية، فالحقيقة الصادمة تكمن في أن الغرب ليس جاهلا بحقائق الصراع،
بل يتبنى عقيدة صهيونية-صليبية مشتركة تعتبر فلسطين "أرض الميعاد"
لليهود بموجب الوعد الإلهي، كما عبّر عنها ونستون تشرشل بقوله: "لا تصبح
الحظيرة ملكا للثور لأنه نام فيها"، وهذا الموقف العقائدي المتجذر يفسر الدعم
الغربي المستمر لإسرائيل رغم انتهاكاتها الفاضحة للقانون الدولي، كما ويتجلى في
الاستمرارية الثابتة للموقف الأمريكي عبر جميع الإدارات المتعاقبة، حيث يتنافس
الديمقراطيون والجمهوريون في توفير جميع أشكال الدعم لهذا الكيان الصهيوني، وذلك
لما يشكله من مصلحة استراتيجية مهمة لحلفائه.
وهكذا تواجه فلسطين اليوم كيانا مدعوما دعما غربيا كاسحا في بيئة
جيوسياسية يسودها التواطؤ أو حتى التآمر، لذلك فإن المعركة الحقيقية ليست مع
إسرائيل فحسب، بل مع المشروع الاستعماري-العقائدي المتكامل الذي تتبناه النخب
الغربية، مما يتطلب إعادة بناء الاستراتيجية المضادة لهذا المشروع على أسس واقعية
تشمل فضح التناقض الغربي بين شعاراته الديمقراطية وممارساته العنصرية، وتوجيه
الجهود الدبلوماسية نحو العالم غير الغربي، وبناء تحالفات استراتيجية مع القوى
المناهضة للهيمنة الغربية، وتعزيز المقاومة الاقتصادية والعلمية والعسكرية كأساس
للقوة الذاتية.