مأساة الحرب السورية
قامت الكثير من الثورات والانتفاضات في وطننا العربي، لكن
من الصعب تخيل كيف تحولت بداية الثورة السورية من ميلاد جديد محتمل لسوريا التي
عانت طويلا من البطش والقمع إلى المشهد الفوضوي العبثي الذي نراه اليوم، فما يحصل
في سوريا هو الأكثر تعقيدا والأغلى ثمنا والأطول أمدا والأكثر تحملا للضغوط، فالحرب
اليوم في سوريا هي حرب إعلامية ونفسية وأرضية وجوية وبحرية وتجويعية، أو بالأحرى هي
حرب كونية في سوريا وعلى سوريا، يسعى الشعب السوري فيها على أقل تقدير البقاء على
أرضه وفي كنف وطنه.
تغيرت الأحوال في سوريا كثيرا، فخلال الحرب السورية ومنذ
انطلاق ما سمي بالثورة أو الانتفاضة السورية في منتصف مارس/آذار 2011م، يفيد المرصد
السوري لحقوق الإنسان أن هذه الحرب أودت بحياة نحو نصف مليون سوري (100 ألف قتيل
موثق)، يضاف إليهم إصابة أكثر من مليوني مواطن سوري بجروح مختلفة أو إعاقات دائمة،
كان للنظام السوري فيها النصيب الأكبر من المسؤولية (قتل المدنيين)، وذلك بنسبة
تتعدى 80% من مجموع القتلى الكلي حتى الآن، فيما يتوزع الباقي على الأطراف الأخرى
من فصائل المعارضة السورية وداعش وروسيا
وتركيا والتحالف الدولي الذي تقوده أمريكا.
هذا ومع قسوة ظروف الحرب اضطر ملايين السوريين إلى
النزوح من أماكنهم إلى مدن أخرى داخليا أو اللجوء إلى بلاد أخرى مجاورة، ليقدر
إجمالي عدد النازحين واللاجئين بنحو 12 مليون شخص أغلبيتهم نازحون داخليا، فيما
لجأ أكثر من 5 ملايين منهم إلى دول مجاورة (تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر)
وأخرى أوروبية أبرزها ألمانيا.
كما ولا تتوقف معاناة المدنيين السوريين على القتل
والإصابة واللجوء فقط، إذ يعتقل النظام السوري نحو 210 آلاف معتقل، يخشى عليهم من أن
يلحقوا بنحو 15 ألف معتقل قضوا في سجون النظام تحت التعذيب والقتل، والتي أجبر
النظام ذويهم على الإمضاء على تصاريح تفيد بمقتلهم على يد فصائل معارضة كما تفيد
تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان.
فالسوريون المعتقلون كانوا رجلا أو نساء يقبعون في سجون
النظام دون أي تهم أو محاكمة أو قضاء، كما أنهم لا يخرجون من هذه السجون أحياء إلا
في حالة واحدة هي عمليات تبادل المعتقلين والأسرى بين النظام والمعارضة، والتي
حدثت في إطار محدود خلال السنوات الماضية، إذ يبدأ مسلسل التعذيب داخل الأفرع
الأمنية وصولا إلى هذه السجون بالصعق الكهربائي والضرب بالسياط والعصي الحديدية،
ولا ينتهي إلا بالأبشع وهو الحرق بالأسياخ الحديدية والتعليق من الأيدي (الشبح)،
مما يسبب عاهات دائمة نتيجة التعذيب المستمر والإصابة بالأمراض المستعصية والأمراض
غير المتوفّرة العلاج، وتتفاقم هذه النسبة بسبب الإهمال المتعمد من قبل النظام
وتقاعسه عن تقديم العلاج اللازم لتلك الإصابات والأمراض.
كما أن للعنف الجنسي دورا بارزا في النزاع السوري، حيث
تحدث أعمال الاغتصاب الجنسي أثناء المداهمات وعند الحواجز وفي مراكز الاحتجاز والسجون
في شتى أنحاء البلاد، ورغم كون النساء والفتيات هن الضحايا الأساسية في الصراع
والنزوح السوري، حيث يواجهن أشكالا لا تحصى من العنف والتمييز والقهر، وينلن الجزء
الأكبر من العنف الجنسي، إلا أن هذا لا يعني أن الذكور ينجون من ذلك، فالإيذاء
الجنسي أصبح أمرا روتينيا للرجال والصبيان في أماكن الاحتجاز السورية، كما وإن
أعدادا كبيرة من الرجال الذين كانت تحتجزهم الجماعات المسلحة المختلفة تعرضوا
للعنف الجنسي وهم محتجزون، حيث يصف النازحون واللاجئون كيف تنفذ الجماعات المسلحة
الهجمات على البيوت، والتي يغتصبون الجميع خلال تنفيذها، رجالا ونساء.
فغرض هذه الانتهاكات الجسيمة والتعذيب الممنهج هو تحقيق الأذى
النفسي الشديد للأفراد، والذي سوف يجعل هوية الإنسان مستقبلا مشوشة إلى حد كبير،
وليس من الغريب أن يستخدم التعذيب الجنسي ضد الرجال والنساء في مكان مثل سوريا، لأن
العنف الجنسي بأشكاله المختلفة في وقت الحرب يظل يشكل وسيلة فعالة جدا لإذلال الناس
وترهيبهم وإخضاعهم، وهو ما حدث ويحدث في كل مكان ومن كل الجهات في سوريا.
فالأفراد في سوريا سواء كانوا محتجزين أو لاجئين يواجهون
جميعا أهوال الحرب والكوارث والنزوح والعنف الجنسي، لكن ممارسة جريمة العنف الجنسي
(الاغتصاب) على نحوٍ واسع، ستترك آثارا في هذا المجتمع لن تمحى لأجيال بعيدة،
وبسبب هذه الجريمة تحديدا، نجد أنه من الصعب الحديث عن عودة تماسك المجتمع السوري
قريبا، لأن كل ذلك سوف يحرض الطرف المعتدى عليه من أية جهة كان على ارتكاب ردات
فعل لا يمكن التنبؤ بها.
هذا وإضافة إلى الخسائر البشرية الضخمة التي لا تقدر
بثمن، فقد خسرت سوريا أكثر من 67% من قدرتها الصناعية والتي دمرت تدميرا كاملا،
كما وتقلصت 80% من الاستثمارات فيها، وقد أفاد تقرير للبنك الدولي أن الاقتصاد
السوري خسر 226 مليار دولار على أقل تقدير خلال سنوات الحرب، وأن 60% من السوريين اليوم
يعيشون في فقر مدقع، فيما يعيش 75% من السوريين بلا دراسة أو عمل أو تدريب، وأن
الوضع سيسوء أكثر وستزداد الخسائر السنوية إذا ما استمرت الحرب.
أما جغرافيا فقد أصبح النظام السوري يسيطر
على النسبة الأكبر من أراضي سوريا، إلا أن ذلك جاء بعدما تحولت نسبة كبيرة منها
إلى ركام، وذلك وفقا لآخر الإحصاءات، حيث تضررت المباني في سوريا بما تضمنته من
وحدات سكنية وطبية تضررا كبيرا، سواء بشكل جزئي أو كلي، لأن كل الأطراف المتصارعة ولو
بدرجات متفاوتة انتهجت وتنتهج سياسة القصف والحصار والتجويع لسكان المناطق الخارجة
عن سيطرتها، وذلك بهدف تهجير السكان الأصليين لهذه الأحياء والمناطق ودفعهم لترك
أملاكهم والرحيل إلى مناطق سيطرة الطرف الآخر، وكل ذلك عبر عمليات الابتزاز والتهديد
المختلفة.
أخيرا نقول إن الأطراف الدولية تجلس الآن على طاولات
التآمر على سوريا لتحديد مصير دولة وشعب كامل، وهي لا تبحث عن حلول قريبة لسورية،
وإنما عن مستقبل الشرق الأوسط الجديد ونهاية سوريا كدولة ذات سيادة وتفكيكها من
الداخل، وذلك ضمن البرنامج الكامل الموصول بين العراق وسوريا ولبنان وصولا لليمن
وليبيا والخليج العربي، أما من يدعون أنفسهم بأصدقاء سوريا (لكل من الطرفين
المتحاربين)، فهم ليسوا في الحقيقة إلا أصدقاء المصالح والمطامع، أصدقاء الإجرام والدم،
أصدقاء الرصاص والمدافع والصواريخ، أصدقاء التهجير والحصار والتجويع، فهم من تلطخت
أيديهم بدماء الشعب السوري البريء للحفاظ على المصالح أيا كانت.