المشروع الكردي في سياق المشروع التكفيري
المشروع الكردي في المنطقة الآن يأتي في سياق المشروع
التكفيري (داعش)، بحيث يجب أن يتم تناوله من زاوية وظيفته الاستراتيجية (الجغرافية
- السياسية) في التمدد في المنطقة والصراع الإقليمي في العراق وسورية وعليهما، بالإضافة
إلى أنه جزء من مشروع تفكيك المنطقة وبلدانها وصناعة (الشرق الأوسط الجديد) على
أسس عرقية وطائفية جديدة.
فبعد قرب اندحار المشروع التكفيري في سورية والعراق،
ظهرت ورقة المشروع الكردي لكي تمثل محاولة لمد عقبات جديدة أمام التواصل الجغرافي
- السياسي بين (إيران وتركيا) من جهة ودول المنطقة الأخرى (العراق وسوريا) من جهة
أخرى، وذلك عبر أدوات كردية تتمثل أساسا في كتلة كردية وازنة في شمال العراق وأخرى
طامحة ومدعمة بالقواعد الأمريكية في شمال سورية.
ولا نملك في هذا السياق إلا أن نلاحظ التبني الأمريكي
لمشروع التمدد الكردي في سورية، والتبني الصهيوني العلني لمشروع التمدد الكردي في
العراق، على أنه في الحالة السورية مدعم بالقواعد العسكرية الأمريكية أكثر من
العراق، دون أن ننسى هنا السياق التكفيري (داعش) وكيف كانوا ومازالوا يستسلمون
للقوات الكردية، وكيف يذهبون إلى وجهات مجهولة بعد استسلامهم، وذلك كما حدث لمئات العناصر
من داعش، وكل ذلك تحت نظر وسمع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية (تنسيقا ومساعدة)، وبذلك يصبح المشروع الكردي ليس سوى محاولة لإنهاك
العراق وسورية بورقة استنزاف جديدة هي في حقيقتها استمرار للورقة التكفيرية.
لكن لا
بد من التذكير هنا أن التاريخ يشهد بأن المناطق المسماة (كردية) في شمال
العراق وسورية اليوم بقيت
آشورية وكلدانية وسريانية وعربية إسلامية تواليا على مدى آلاف السنين قبل أن يبدأ
الزحف الكردي إليها من جبال زاغروس والشريط التركي-الإيراني-العراقي في القرون
المتأخرة وخاصة منتصف القرن التاسع عشر، فأربيل ودهوك كانتا آشوريتين، وكركوك كانت
سريانية، وقد بقيت كلها كذلك في ظل الفتح العربي الإسلامي، لكنها تعرضت فيما بعد
لحملات غزو واحتلال استيطاني إحلالي لا تختلف كثيرا عما فعله الصهاينة في فلسطين
أو المستعمرون البيض في القارة الأمريكية، ومنها ما تعرض له السريان في ظلال
المذابح ضد الأرمن في الحرب العالمية الأولى من قبل العثمانيين.
وهكذا تغيرت الخريطة الديموغرافية في هذه المنطقة بفعل الحروب
والمذابح (التطهير العرقي) خلال القرن الماضي، وذلك من خلال السياسة العثمانية والتي
قد تكون منهجية في بعض أوجهها لتغيير هوية المنطقة لا سيما في ظل السلطان عبد
الحميد الثاني، وهي خريطة لا تزال تتغير اليوم، حيث أن التمدد الكردي في شمال
العراق وشمال سورية الآن هو تمدد يتم على حساب العرب تحديدا، أرضا وشعبا وثروات، وفي
مناطق جديدة دوما، وذلك في ظل الحماية الأمريكية خاصة والغربية عامة.
فالوجود الكردي في هذه المناطق طارئ، كما أن الأكراد لا يشكلون
أمة بالمعنى العام والدقيق للكلمة، فهم لا يتحدثون لغة كردية واحدة بل لغات كردية
مختلفة (لا لهجات مختلفة فحسب)، إضافة إلى أن انتشارهم هو على شكل جزر كردية منفصلة
من خراسان شمال شرق إيران إلى هضبة الأناضول التركية بدون أي تواصل جغرافي، حتى أنه لا يذكر وجود أي أثر كردي تاريخي قديم في كل هذه المنطقة
اليوم، إنما هي آثار عربية قديمة وآشورية وكلدانية وسريانية تنتمي كلها لسياق
حضاري واحد لا أثر للأكراد فيه حضاريا كما يذكر بعض المؤرخين.
لهذا
فإن العمل الآن أو مستقبلا على انفصال (استقلال) الأكراد سواءا في العراق (كردستان
العراق) أو سوريا لن يكون قاصرا على ذلك فقط، بل سيكون نواة لجذب الأكراد من شمال
العراق وشمالي وشمال شرقي سوريا و20 مليون كردي في شرق تركيا و15 مليون كردي في غرب وشمال غربي
إيران، بحيث أن حزب العمال الكردستاني الذي كان بلا دولة داعمة، ستصبح له الآن دولته
الداعمة، التي ستغذيه بالمال والعتاد وتوفر له الملاذ الآمن ومعسكرات التدريب.
هذا
كله يعني العمل على نشأة دولة كردية قوية مستقبلا يربطها ميثاق غليظ مع إسرائيل، وليتراجع بذلك شعور إسرائيل بالوحدة بين شعوب المنطقة،
كما وسوف تصبح ورقة ضغط لا يستهان بها على القوى الفاعلة في المنطقة، وذلك في حال
أرادت هذه الدول أو القوى المساس بأمن إسرائيل أو السير في طريق ضد أو تعارضه
إسرائيل، أضف إلى ذلك أن استقلال الأكراد هو المعادلة الصهيونية النجاحة للبدأ
بتقسيم العراق بصورة رسمية ولتقسيم سوريا وليبيا واليمن وغيرها من البلاد العربية.
فقد عملت
إسرائيل على تقوية أكراد شمال العراق لسنوات، ليكونوا لها درعا في الماضي من إيران
الإسلامية وبغداد الصدّامية، فمن ينسى كيف كان السلاح الإسرائيلي يتدفق إلى
الأكراد للإبقاء على شرارة ثورتهم ضد النظام العراقي مشتعلة، حيث كان الاتصال بين
إسرائيل والأكراد آنذاك بوساطة شاه إيران، الذي رأى أن إضعاف القوات العراقية
وانشغالها بقتال الأكراد في مصلحة إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية، هذا
واستمر تطور الوجود العسكري الإسرائيلي في (كردستان العراق) شيئا فشيئا، حتى وصل
إلى عصره الذهبي مع بداية الغزو الأمريكي للعراق 2003م، وذلك عندما خرج التصريح الشهير
من أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بأن بلاده تقيم علاقات قوية مع
أكراد شمال العراق منذ زمن بعيد، كما وتعمل إسرائيل اليوم على تقويتهم ليكونوا لها
سلاحا تصوبه إلى وجه المربع المشتعل (العراق – إيران – سوريا – تركيا) والذي أصبح أمنهم
جميعا مهددا.
وهكذا
نرى كيف لم تضِع سنوات العناء التي قضتها إسرائيل في تهيئة الأجواء الكردية لها
داخليا، وذلك بإزكاء النزعة الانفصالية المتواجدة فيهم بطبيعة الحال، حتى أصبح الأمر
يتجاوز حدود المصلحة العسكرية، ويتجاوز النظر إليه باعتباره تعاونا عسكريا بين
كيانين كل منهما يرغب في الاستفادة من الآخر، حيث نجحت إسرائيل في أن تسوق لنفسها في الداخل الكردي على أنها
المخلص للأكراد من الاضطهاد، وأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تهتم بقضايا
المقهورين والمظلومين، ومنه فإن استقلال الأكراد هو مؤامرة أمريكية صهيونية
بإمتياز لتقسيم وتفتيت المنطقة، بحيث سوف يمتد إلى دول عربية وشرق أوسطية أخرى أهمها
السعودية.