علاقات الزعيم الراحل هواري بومدين مع الرؤساء العرب
لا تزال حياة الزعيم الراحل، هواري بومدين، مليئة بالأسرار والمفاجآت، وذلك رغم مرور 42 سنة على رحيله، فعلاقاته المتشعبة مع الزعماء العرب آنذاك، وعلاقاته مع رفاق السلاح من الوزراء في الجزائر المستقلة، وحياته الخاصة وغيرها من المواضيع لا تزال محل بحث من طرف المؤرخين والإعلاميين، وسنسلط الضوء هنا على بعض الزوايا المهمة من حياة هذا الرئيس الراحل، وذلك من خلال ما أدلى به الدكتور، عثمان سعدي، سفير الجزائر الأسبق في بغداد ودمشق في حوار أجرته معه الصحفية آسيا شلابي.
علاقة بومدين مع صدام حسين
يقول السفير، عثمان سعدي، أنه عندما كان سفيرا في بغداد، كان صدام حسين، الزعيم
على مستوى العالم العربي آنذاك، رفقة جمال عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في
الجزائر، وكان الدبلوماسيون الغربيون يعتبرون مفاتيح خريطة الوطن العربي هي
الجزائر ومصر والعراق.
ويذكر أنه رتب لصدام زيارة الجزائر في يونيو 1974 م، حيث كان أحمد حسن
البكر، رئيسا للعراق، وصدام حسين نائبا له، والذي كان الممسك الحقيقي بزمام الأمور
في العراق، وقد استقبله بومدين كرئيس دولة، حيث نزل في دارة بنادي الصنوبر وطلب
السباحة في البحر، فخصص له يخت الرئاسة وسبح حوالي كيلومترين، وعندها قال له صدام:
(أقضي إجازتي بالعراق، لكن البلد الوحيد الذي أتوق أن أقضي به بعض إجازاتي هي
الجزائر الرائعة)، وهكذا قرر إرسال أولاده لقضاء فصل الصيف بالجزائر بعد أن انبهر
بطبيعتها، وقد قال له بومدين: (دارة وسيارة تحت تصرف العائلة)، ومن هنا العلاقة
صارت جيدة جدا بينهما، وتحولت مع مرور الوقت إلى صداقة وطيدة.
كما وأنه خلال زيارة الرئيس بومدين للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1973 م، حيث استقبله الرئيس نيكسون، والذي أثار معه موضوع العلاقة بين أمريكا والعرب، لأن بومدين كان يمثل العرب كرئيس للقمة العربية التي جرت في الجزائر، ومما قاله له نيكسون: (أن المشكل مع العرب هو مسألة إسرائيل، ودعاه إلى تخطي الموضوع من أجل علاقة جيدة)، فرد عليه بومدين قائلا: (أنتم لم تكتفوا بإسرائيل واحدة بل تريدون خلق إسرائيل ثانية في شمال العراق، فرد عليه نيكسون باستغراب (إسرائيل ثانية)، وطبعا بومدين كان يقصد الأكراد)، ومن جهتي كسفير بلغت الرسالة والحوار الذي دار بينهما حول الموضوع، فقال لي الرئيس العراقي البكر وصدام حسين آنذاك: (بومدين أول رئيس عربي يثير القضية الانفصالية الكردية بهذا الأسلوب مع رئيس دولة كبرى هي أمريكا)، هذا بالإضافة أنه عندما عقد سنة 1975 م مؤتمر الأوبيك بالجزائر وشارك به شاه إيران وصدام، عمل الرئيس بومدين على جمعهما وهكذا حلت المشاكل بين العراق وإيران، بحيث تخلى الشاه عن الأكراد بالعراق فانهارت حركتهم وهذا يحسب لبومدين.
أما عن رواية تسميم الرئيس بومدين بتخطيط من صدام، فإن السفير ينفيها نفيا قاطعا، قائلا أنه كان هناك شخص واحد حاول زرع الفتنة بين الجزائر والعراق، وهو وزير الدفاع السوري، مصطفى طلاس، حيث زعم آنذاك أن الرئيس بومدين توفي بكاميرا وبإشعاع سلطت عليه في بغداد، وهو إتهام تافه، ويضيف قائلا، بعد وفاة عبد الناصر بقي للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية زعيمان هما صدام حسين وبومدين، وطبعا هواري بومدين كان البارز في ذلك الوقت كقائد عربي، أما مرض بومدين وفقا للأطباء الروس الذين فحصوه فهو إما نتيجة خلل كيمائي أو طبيعي، وهو خلل أصاب كريات الدم البيضاء والحمراء، وليس مستبعدا أن يكون قد سمم ولكن بطريقة متطورة جدا يصعب كشفها.
علاقة بومدين مع حافظ الأسد
يقول السفير عثمان سعدي، أن الرئيس
بومدين لم يكن متفقا مع سياسة حافظ الأسد خاصة فيما تعلق بنزاعاته مع دول الجوار،
وأنه عندما كان سفيرا في دمشق، كان الرئيس بومدين يعطيه دوما الإذن بتبليغ رسالة باسمه
إلى الرئيس حافظ الأسد في أي موضوع يراه مناسبا، فمثلا عندما وقعت أزمة (نهر
الفرات) بين العراق وسوريا، وكان السوريون يملؤون سد (الطبقة) مما أدى لإفراغ نهر
الفرات المار للعراق من جلّ مياهه، وقعت أزمة بين البلدين، فطلبت مقابلة مع الرئيس
السوري حافظ الأسد لنقل رسالة له من
الرئيس بومدين، ونقلت له رسالة فحواها ضرورة حل المشكل، وتم إيجاد حل
للمشكل وذلك بفضل الأتراك الذين اكتشفوا مشكل في سد (كيبان) وهو أكبر سد بالمنطقة،
فقد ظهرت به تشققات والشركة الأمريكية التي بنته طالبت بتفريغ السد لإصلاحه، فاضطروا
لإطلاق المياه في الفرات وبعدها امتلأ سد (الطبقة)
بسوريا في أيام، فاحتج السوريون على تركيا، حينها طلب السفير التركي مقابلتي وقال
لي: (لم أفهم كيف تحتجون كعرب على إرسال المياه للفرات، الاحتجاج يكون بحجب المياه)،
فقلت له: (لأنكم أفسدتم خطة السوريين في مضايقة العراق بمياه الفرات، وأنهيتم
المشكلة أصلا).
هذا ويذكر السفير عثمان سعدي أيضا موضوع حشد حافظ الأسد الجيش السوري على
حدود العراق، بحيث كان الهدف من ذلك غزوه، فطلبت لقاء الرئيس السوري وقلت له: (الرئيس
بومدين يقول لك عيب ما تدبرون من حرب)، فقال الرئيس السوري: (الرفاق في القيادة القومية،
قالوا لي يجب أن نتوقف عن استيراد السلاح من الاتحاد السوفياتي وأمامنا خزائن
بغداد)، عندها قلت له: (أمامكم ثلاثة موانع هي بادية الشام وصحراؤها ونهر الفرات
وهو مانع مائي، ثم جيش العراق)، والرئيس بومدين يقول لك: (إذا وقع الصدام بينكما
ستكون بادية الشام مقبرة للجيش السوري والعراقي)، ونتيجة لذلك الحوار حل المشكل وانسحبت
القوات السورية من الحدود العراقية.
كما ويقول السفير عثمان سعدي، أن حافظ الأسد لم يكن يحب الرئيس بومدين، وأن
علاقاته كسفير ساءت مع حافظ الأسد عندما وقع الصدام مع الفلسطينيين في 1975 م، لأنه
في ذلك الحين صدرت لي تعليمات من بومدين بمساعدة الفلسطينيين وفتح السفارة لهم،
وأذكر أن (أم جهاد) لجأت إلى السفارة الجزائرية هاربة من مطاردة الشرطة السورية،
فأعطيتها جواز سفر وكلمت رئيس المخابرات السورية وقلت له: (هي مواطنة جزائرية
الآن، وستخرج من السفارة برقم جواز سفر كذا، وإذا مست سنطرد كل السوريين الموجودين
عندنا).
هذا ويقول السفير عثمان سعدي، أن الرئيس ياسر عرفات طلب منه مساعدة منظمة التحرير
في دمشق، وذلك بأن تودع بالسفارة الجزائرية خمسة ملايين ليرة، ويأتي المحاسب في كل
شهر يدفع من عندنا مرتبات الموظفين وأسر الشهداء، لأنه كان يخشى على هذه الأموال
السائلة عنده، فخصصت لهم بالسفارة مكتبا وخزنة واستمروا على هذه الحال شهورا، كما
أودعوا بالسفارة كمية هامة من أرشيف مكاتب المنظمة بدمشق خصصت لها غرفة خاصة بمنزل
السفير، وكان السوريون على علم بذلك فتضايقوا مني، وفي مناسبة قال لي حافظ الأسد: (تجاوزت
حدودك كسفير يا عثمان)، فأجبته: (من قال إنني سفير، فوفقا لفكر حزب البعث أنا ضابط
ارتباط بين قطرين، شاءت الأقدار أن يكونا بلدين مختلفين بدل جزئين من وطن عربي
واحد)، فابتسم الرجل، وختمت كلامي قائلا: (أنا ملزم بتطبيق أوامر أخيك الهواري
بومدين).
ويضيف السفير عثمان سعدي قائلا، أن إبراهيم ماخوس، وزير الخارجية السوري لجأ إلى الجزائر ورحب به بومدين وعاش ومات في الجزائر، أما الأتاسي، رئيس الجمهورية مات بسجون حافظ الأسد، حيث كان هو وماخوس قد تطوعوا كأطباء في الثورة الجزائرية، وكان قد طلب مني بعض الساسة التدخل لدى الرئيس بومدين في مسألة سجن الأتاسي، فقلت لهم: (بومدين لديه مشكل سجن بن بلة، ولا يحق لي طلب التدخل في هذا)، ونقلت ذلك إلى بومدين، بعدها قال لي الرئيس بومدين: (وصلتنا معلومات أن حياتك في خطر وممكن أن يقتلك السوريون)، قلت له: (جاءني ضابط علوي إلى السفارة وقال لي: حذار أن تضع رجلك في لبنان، لأنهم قرروا تصفيتك برصاصة طائشة)، وهكذا ساءت علاقتي بالأسد وانتهت مهمتي في سوريا، بحيث أولا لم يخصص لي مقابلة لرئيس الدولة كسفير يغادر، وثانيا تم توديعي بملحق وليس بمدير التشريفات، لأنه كان متضايقا مني، لكن عندما سمع رئيس الجيش الشعبي السوري، إبراهيم العلي، بذلك جاء وودعني بالمطار مصطحبا وحدة من الجيش الشعبي آنذاك.
علاقة بومدين مع جمال عبد الناصر
يقول السفير عثمان سعدي، أن المصريين تصوروا أن خط الدولة الجزائرية سيتغير
مع بومدين عما كان عنه في عهد الرئيس بن بلة، لكنهم اكتشفوا أن خط الجزائر السياسي
لم يتغير، وهو الأمر نفسه الذي وقع مع كاسترو، الذي كان ساخطا على الجزائر بعد الانقلاب
في 1965 م، لكنه عندما لاحظ أن خط الجزائر لم يتغير مع الاشتراكية في حكم بومدين،
عاد وزار الجزائر وكون علاقات جيدة مع بومدين.
هذا ويضيف السفير قائلا، أنه في 1967 م وعندما دمر الإسرائيليون الطيران المصري وهو جاثم على الأرض، هاتف الرئيس عبد الناصر الرئيس بومدين وقال له: (لم تبقى لي طائرة واحدة)، فرد بومدين: (أرسل طيارين ليأخذوا ما نملك من طائرات، لأن الطيارين المصريين يعرفون الأجواء المصرية أفضل)، وهكذا حضر الطيارون المصريون في طائرة أنطونوف وأخذوا الطائرات الجزائرية، وهنا رصد الأمريكان المكالمة وطلب السفير الأمريكي لقاء بومدين، فقال له: (الحكومة الأمريكية لا تنظر بعين الارتياح لإرسال طائرات عسكرية جزائرية لعبد الناصر)، فأجاب الرئيس بومدين: (أولا: هذا تدخل في شؤوننا كعرب، وقد انتهى الزمن الذي كانت فيه أمريكا تعطي الأوامر والشعوب الصغيرة تطيع، ثانيا: انتهت المقابلة يا سعادة السفير)، ووقف وخرج قائلا لمدير البروتوكول: (رافق سعادة السفير إلى سيارته)، وهي أقصر مقابلة بين رئيس دولة وسفير حسب ما يقال، كما وأرسل بومدين طائرات ميغ الجزائرية، وهي التي شاركت في بقايا الحرب لدرجة أن الأشقاء في مصر قاموا بصباغة الطائرات، ونسوا واحدة طارت بالعلم الجزائري، وحينها صرح موشي ديان الإسرائيلي وقال: (الطائرات الجزائرية هي من تقصف إسرائيل)، كما وكان الرئيس بومدين قد أرسل قوات لمصر رابطت على شاطئ قناة السويس وقامت ببطولات شهد لها الإسرائيليون أنفسهم، وهذا يبرهن على أن بومدين كان يؤمن بأن جيش الجزائر ملك لا للجزائر فقط وإنما للأمة العربية.
علاقة بومدين مع قادة فلسطين
يقول السفير عثمان سعدي، أن بومدين كان يقول دائما: (قضية فلسطين هي الإسمنت
الذي يربط دولة الجزائر بالدول العربية وهي المفجر الذي ينسفها)، وهو القائل أيضا
مقولته الشهيرة: (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة)، ويضيف السفير هنا أنه من ضمن
المواقف التي جمعته بالراحل بومدين قائلا: عندما كنت سفيرا بسوريا جاءني أبو جهاد
رحمه الله للسفارة وقال لي: (أن العلاقة سيئة بيننا وبين بومدين، نتيجة تصريح أدلى
به ياسر عرفات، فهم منه بومدين أنه دعم للمغرب في موضوع الصحراء الغربية، وقطع
العلاقات مع منظمة التحرير)، قصدنا الجميع
ولم يحل المشكل، ولمعرفتي بالعلاقة الوثقى التي تربط بينك وبين بومدين أطلب منك
مساعدتنا على حل سوء الفهم الذي حدث بيننا وبين بومدين، وقدم لي ورقة يطلب مني
الوساطة، فطلبت لقاء الرئيس وقبل الدخول لمكتبه قال لي المستشار السياسي للرئيس
آنذاك إسماعيل حمداني: (لا تكلمه في الموضوع، لأنه سيطردك من مكتبه، فهو ساخط جدا
على الفلسطينيين)، لكن بعد أن دخلت وقدمت له عرضا لكل ما طلب مني، قلت له: ما هو
المشكل مع الفلسطينيين ؟، فرد: لا أريد الحديث فيه، فليذهبوا إلى الحسن الثاني يعطيهم،
ولنغلق النقاش في الموضوع، فقلت له: سيدي الرئيس في إمكانك أن تطردني من مكتبك،
وفي إمكانك أن تدخلني السجن بمكالمة هاتفية أو تعزلني من منصبي كسفير، لكن ليس في
إمكانك أبدا أن تحرمني من قول كلمة الحق، إذا اقتنعت بها فاعمل بها، وإذا لم تقتنع
بها فإرمها في سلة المهملات بجانبك، فقط دعني أتكلم، فقال لي وهو يبتسم: تكلم يا
شاوي يا ابن الشاوي (قبائل الشاوية بأوراس الجزائر مشهورون بعنادهم وصلابتهم)، فقلت
له: أن يهبّ الزعماء والكثير من الناس بمن فيهم السادات المشبوه لمساعدة
الفلسطينيين المحاصرين في لبنان، وأن يقف الرئيس بومدين قائد جيش التحرير الوطني
ـــ ولا يهمني رئيس الدولة ـــ متفرجا فهذا سيسجله عليه التاريخ، والتاريخ لا يرحم،
لم يجبني وحمل الهاتف وقال للدكتور أمير، مدير ديوان الرئاسة: (ترجع العلاقات
الفلسطينية طبيعية كما كانت)، وهاتف عبد الحميد الأطرش في وزارة الدفاع وقال له
نفس الكلام، ثم قال لي: كيف نرسل المساعدات ؟، قلت نرسلها إلى بنغازي أو مرسى
مطروح، حيث يوجد فلسطينيون بزوارق بإمكانهم إيصالها تسللا، فتساءل لماذا لا نرسلها
مباشرة إلى لبنان ؟ قلت لأن شمال لبنان محاصر من أسطول سوريا وجنوبه من أسطول
إسرائيل، قال إذن أرسل باخرة إلى طرابلس بالعلم الجزائري وليغرقها السوريون.
أخيرا يقول السفير عثمان سعدي، كان الهواري بومدين (محمد بوخروبة)، قائدا عربيا عظيما مع جمال عبد الناصر وصدام حسين، وكان الديبلوماسيون الغربيون الذين عملت معهم يرون فيهم زعماء الأمة العربية المؤمنين بوحدة مصيرها، لكن أدرك الموت بومدين وهو في الأربعين من عمره، ولو بقي حيا لكانت الجزائر الآن في مستوى كوريا الجنوبية، حيث أدركت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل أن قيادة الأمة العربية من هؤلاء الثلاثة، عبد الناصر وبومدين وصدام، خطر على استراتيجيتهما فارتاحا لاختفائهم تباعا.
هذ ويقول السفير عثمان سعدي، أنه عندما تقرر نقله من بغداد إلى دمشق، وفي أثناء حفلة الوداع التي أقامها بالسفارة، بدرت منه نادرة قال فيها: (يروى عن عثمان بن عقان، أنه كان يلقب بذي النورين، لأنه حظي ببنتين من بنات الرسول، زينب وأم كلثوم، وأنا عثمان السفير من حقي أن ألقب بالسفير ذي النورين، لأنني حظيت بنور البعثين في فترتين متتاليتين)، وبعد يومين استقبلني صدام، فما أن دخلت مكتبه حتى قال لي: (أهلا بالسفير ذي النورين، لكن لعلمك أنه يوجد نور واحد، وكان يقصد بعث العراق)، فقلت له: (غدا عندما أعبر بادية الشام، ستقال نفس الملاحظة في غربها، ورأيي يا أبا عدي رغم التناقض بينكما، إذا اختفى أحدكما سيختفي الآخر).
عثمان سعدي سفير الجزائر الأسبق في بغداد ودمشق