أين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟
يجب أن يكون الإنسان المسلم غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب، والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن، بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك، وأن يميل إلى الاكتفاء بالأقل دائما، وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه، وارتفع في علماء الآخرة حزبه.
ويشهد لذلك ما حكي عن أبي عبد الله الخواص، وكان من أصحاب حاتم الأصم، قال: دخلت مع حاتم إلى الري، ومعنا ثلاث مائة وعشرون رجلا يريد الحج، وعليهم الزرمانقات (جبة صوف)، وليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين، فأضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة، فإني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل، قال حاتم: عيادة المريض فيها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة، وأنا أيضا أجيء معك، وكان العليل محمد بن مقاتل، قاضي الري، فلما جئنا إلى الباب، فإذا قصر مشرف حسن، فبقي حاتم متفكرا يقول، باب عالم على هذه الحالة، ثم أذن لهم فدخلوا، فإذا دار حسناء فوراء واسعة نزهة، وإذا بزة (واسعة) وستور، فبقي حاتم متفكرا، ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه، وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها، وعند رأسه غلام وبيده مذبة (ما يدفع به الذباب).
فقعد الزائر عند رأسه، وسأل عن حاله وحاتم قائم، فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس، فقال: لا أجلس، فقال: لعل لك حاجة، فقال: نعم، قال: وما هي، قال: مسألة أسألك عنها، قال: سل، قال: قم فاستوي جالسا حتى أسألك، فاستوى جالسا، قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته؟ فقال: من الثقات حدثوني به، قال: عمن قال عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن، قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمن، قال: عن جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل، قال حاتم: ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وأصحابه إلى الثقات وأداه الثقات إليك، هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت سعتها أكثر، كان له عند الله عز وجل المنزلة أكبر، قال: لا، قال: فكيف سمعت، قال: سمعت أنه من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كانت له عند الله المنزلة، قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت، أبا لنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والصالحين رحمهم الله، أم بفرعون ونمرود، أول من بنى بالجص والآجر، يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها، فيقول العالم على هذه الحالة، أفلا أكون أنا شرا منه، وخرج من عنده.
فازداد ابن مقاتل مرضا، وبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل، فقالوا له: إن الطنافسي بقزوين أكثر توسعا منه، فسار حاتم متعمدا، فدخل عليه، فقال: رحمك الله، أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة، قال: نعم وكرامة يا غلام، هات إناء فيه ماء، فأتي به، فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: هكذا، فتوضأ، فقال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد، فقام الطنافسي وقعد حاتم، فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعا أربعا، فقال الطنافسي: يا هذا أسرفت، قال له حاتم: فبماذا، قال: غسلت ذراعيك أربعا، فقال حاتم: يا سبحان الله العظيم، أنا في كف من ماء أسرفت وأنت في جميع هذا كله لم تسرف، فعلم الطنافسي أنه قصد ذلك دون التعلم، فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوما.
فلما دخل حاتم بغداد، اجتمع إليه أهل بغداد، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، أنت رجل ولكن أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته، قال: معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي، أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه، فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل، فقال: سبحان الله ما أعقله، قوموا بنا إليه، فلما دخلوا عليه، قال له: يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا، قال: يا أبا عبد الله، لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال، تغفر للقوم جهلهم وتمنع جهلك منهم، وتبذل لهم شيئك وتكون من شيئهم آيسا، فإذا كنت هكذا سلمت، ثم سار إلى المدينة، فاستقبله أهل المدينة، فقال: يا قوم أية مدينة هذه، قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصلي فيه، قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطىء بالأرض، قال: فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم، قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض، قال حاتم: يا قوم فهذه مدينة فرعون، فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان، وقالوا هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون، قال الوالي: ولم ذلك، قال حاتم: لا تعجل علي، أنا رجل أعجمي غريب دخلت البلد، فقلت مدينة من هذه، فقالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: فأين قصر رسول الله وقص القصة، ثم قال: وقد قال الله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله صلى الله عليه وسلم أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجر، فخلوا عنه وتركوه.
أخيرا نقول إن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه، واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخرى هي محظورة، والحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة، ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان صلى الله عليه وسلم لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم ونزع خاتم الذهب في أثناء الخطبة.