قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التطبيع.. نزع للعداء من العقل استكمالا لنزع السلاح من اليد

التطبيع.. نزع للعداء من العقل استكمالا لنزع السلاح من اليد

التطبيع في الصراع العربي الصهيوني يقصد به الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع، والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة، والتسليم لها بحقها في الأرض العربية بفلسطين، وبحقها في بناء المستوطنات، وحقها في تهجير الفلسطينيين، وحقها في تدمير القرى والمدن العربية، واستمرار انتهاكاتها لحقوق هذا الشعب المقاوم، بين قتل واعتقالات وهدم للبيوت وحصار وغيرها الكثير، وهكذا يكون التطبيع هو الاستسلام والرضا بأبشع مراتب الذل والهوان، والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق.


التطبيع اليوم أصبح نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، إلا أنه في عالمنا العربي والإسلامي لا يزال ينحصر بين بعض الفئات الحاكمة ودولة الكيان الإسرائيلي في المنطقة، كما ومجاله لا يزال يقتصر على العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية في أضيق نطاق، وذلك لأن الحاجز النفسي الناشئ من المكون العقائدي للفرد في هذه الأمة، هو الذي ما زال يقف سدا منيعا في مواجهة سيل هذا الدهاء والمكر الصهيوني.


لهذا يجب علينا ترسيخ الحسم والحزم النفسي والعملي في مقاومة التطبيع، وذلك في مقابل ما يروج له بعض الحكام العرب من انفتاح وتطبيع رسمي، حيث أن شعوب عالمنا العربي والإسلامي مازالت تقاوم وترفض التطبيع رغم قبول بعض أنظمتها لذلك، والأهم هو الشعب الفلسطيني بحد ذاته ومقاومته الباسلة، حيث أننا على يقين أن أصحاب الحق هم الفائزون والمنتصرون مهما طال الزمن، كما أن قرار الرفض للتطبيع والمقاومة هو فقط بيد الشعوب وليس بيد حكامها المطبعين.


التطبيع بالنسبة لصناع دولة الكيان الصهيوني المزعومة يجب أن يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه يهودية إسرائيل ووجودها، بحيث ينشأ إنسان (عربي / مسلم) بمفاهيم جديدة ومعدة مسبقا تنسف كل ما سبق بخلفياته وحيثياته، وإن لم يكن التطبيع كذلك (من وجهة نظر الصهيونية) فإن جذور بروز الصراع من جديد تبقى كامنة حتى يحين وقت انبثاقها، فإذا كان للصراع أن يدفن نهائيا فإنه لا بد من نسف الأصول والمنابت وأسس تشكيل الشخصية العربية الإسلامية، وعليه فإن التطبيع يجب أن يكون منهاجا تربويا وحياتيا جديدا، ومبرمجا بطريقة مؤثرة تخلق قيما تربوية وأخلاقية جديدة متناسبة مع المرحلة وتشكل أساس المستقبل.


هذا ويمثل التطبيع الثقافي بشكله الحالي والجديد الدعامة الرئيسية للتطبيع بشكل عام من وجهة نظر الكيان الصهيوني، إذ المطلوب ببساطة نزع العداء من العقل العربي استكمالا لمحاولة نزع السلاح من اليد العربية، وهي المهمة التي يتكفل بها التطبيع السياسي الأمني، فإذا كانت مناهج التربية والتعليم (العربية والإسلامية) تحض على الكراهية فإنه يمكن تغييرها لتشيع قيم السلام، وموقف الإسلام من اليهود أيضا له حله، كما وإذا كانت (المفاهيم السلبية) تسود الدين الإسلامي فيمكن إزالتها، حيث قال ديفيد ليفي، وزير خارجية سابق لدولة الاحتلال: (أنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب، وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القرآن).


وقد أخذ المخطط الصهيوني تجاه الإسلام أشكالا وأوجها متعددة، وذلك بهدف توجيه جهد مركّز لتأسيس علاقات وحوارات مع رموز دينية إسلامية، وإقامة مؤتمرات حول وحدة الأديان وغيرها، ومن يراقب بهدوء وموضوعية يرى أن أسلحة عديدة تستخدم في هذه العملية، أما الأخطر في هذه السياسة فهو ما كشفت عنه بعض وسائل الإعلام من سعي أمريكي لمحاصرة البيئة الثقافية المعادية للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية، إذ المطلوب أميركيا وصهيونيا تجفيف ينابيع الرفض والمقاومة حتى لو كانت آتية من القرآن الكريم والتراث الإسلامي أو أي تراث إنساني آخر.


وهكذا فإن أخطار هذا التطبيع الثقافي الديني تتمثل في تدمير مقومات الأمة، باعتبار أن الهيمنة على روح الأمة وعقلها وفكرها ووجدانها يشكل بالنسبة للعدو هدفا رئيسيا وسياسة ثابتة، بحيث يسعى لتحقيق التطبيع عبر بث السموم الأخلاقية والفكرية التي تسمح للصهيونية بالعبث والتخريب في فكر الأجيال وأخلاقياتهم التي تربو عليها، ويكون ذلك ابتداء بالتخلي عن كل ما في المخزون الديني والثقافي للأمة من النصوص التي تصنفهم أعداء، إلى السماح للفكر اليهودي والصهيوني بالاختراق والتمدد باتجاه كل القطاعات، كما لو أنه أحد حالات الفكر السائدة التي يحق لها الظهور في عالمنا بشكل عادي.


هذا وإن خسارة المعارك العسكرية أو السياسية يمكن أن يعوض مهما طال الزمن أو قصر، لأن هذه المعارك تمس السطح فقط ولم تستطع أن تمس المكون العقائدي والحضاري لأمتنا العربية الإسلامية، وذلك لأن الأمة مازالت محافظة على أصالة عقائدها وقيمها وثقافتها، ولكنها إذا خسرت هذه المعركة الحضارية أصبحت نظرتها إلى الحياة والكون نظرة غربية أمريكية صهيونية، وأصبحت قيمها الأخلاقية والحياتية ومقوماتها الحضارية والثقافية المختلفة تنم عن هذا الاتجاه، وهذا ما لا يمكن تعويضه ولو خلال عشرات السنين.


طبعا هناك عقبات صعبة أمام التطبيع، وأهمها الموقف الثقافي والعقائدي للعرب وللإسلام تجاه إسرائيل واليهود، وتعزيز ذلك يستدعي الاعتماد والارتكاز على ضرورة وجود برامج مركبة في المجال التعليمي والثقافي، لكي تصبح أحد أهم أسلحة المقاومة العربية والإسلامية الشاملة ضد التطبيع وتعميم ثقافة مقاومة التطبيع والمقاطعة، لا سيما من خلال إدخال مثل هذه الثقافة عبر البرامج التعليمية، إذ لا بد أن يعي كل مربي في مؤسسة تعليمية، وكل رب وربة أسرة، وكل فعالية أيا كان مجالها أن من يمارس التطبيع هو شريك في جريمة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي والوحشية الصهيونية التي تستبيح كل شيء، وأن التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة في حق شهداء وحقوق ونضال الشعب الفلسطيني.


للأسف باتت مقاومة التطبيع محصورة في التحركات الشعبية في مواجهة حركة التطبيع الرسمي الذي فرضته معاهدات الحكام التي تتالت، والتي لم تكن إلا خيطا في نسيج متكامل يهدف إلى إخضاع المنطقة كليا واستثمارها سياسيا واقتصاديا، لهذا يجب العمل دائما على إظهار المخاطر السياسية والاقتصادية والثقافية للتطبيع، وتعبئة الشعوب العربية والإسلامية للضغط على الحكام لتعديل سلوكهم فيما يخص التطبيع، ورفع معنويات الأمة وتبيان قدرتها على مقاومة التطبيع، والتأكيد على أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم في المقاومة، بل تسندهم أمة عربية وإسلامية برفضها التطبيع، وأن تصبح المواجهة مع كل أشكال التطبيع هي مكون أساسي من مكونات حائط الصمود الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهي مهمة أساسية لكل القوى المناضلة والمؤمنة بالحق الوطني والقومي والإنساني الأصيل لشعب فلسطين ولكل الشعوب في الحرية وتقرير المصير والحياة الإنسانية الكريمة، فنحن نناضل من أجلنا كعرب ومسلمين وأحرار، وكل هذه النشاطات تعتبر الحد الأدنى من المقاومة. 

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart