قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الرؤية العلمانية الشاملة الكامنة.. التأثير وإعادة صياغة الوجدان

الرؤية العلمانية الشاملة الكامنة.. التأثير وإعادة صياغة الوجدان

 

تظهر العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من خلال أبسط الأشياء وتتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، وذلك حتى تصل إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات، وهنا سيأتي دور الصور المحايدة البريئة، فإذا أراد أحدهم (إنسان وظيفي) أن يقضي أوقات فراغه، فإنه سيشاهد مثلا فيلما أمريكيا يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، والموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة، ولعل كلمة (حب) هنا كلمة متخلفة قليلا، فهو في الواقع يشتهيها فقط، وعلى استعداد لأن يتعايش معها، وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري، ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمى (توم وجيري)، والذي كان ومازال يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللطيف الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي شيقة وذكية وناجحة)، للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا هي قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن، كما أن الصراع بين الإثنين لا ينتهى، حيث يبدأ ببداية الحلقة ولا ينتهي بنهايتها، فالعالم حسب رؤية هذا الكارتون إن هو إلا غابة مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر (توم وجيري)، هذا وقد أثبتت إحدى الدراسات أن مسلسل (توم وجيري) مثّل أكبر آلية لنقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال.


كما أن من أهم آليات العلمنة في العالم اليوم هي هوليوود، وخصوصا أفلامها مثل أفلام رعاة البقر وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، وبشكل يصعب على الإنسان اكتشافه، وأفلام الغرب الأمريكي (الويسترن) بالذات تنقل لنا رؤية علمانية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا، فبطل الفيلم هو الرائد الأبيض الذي يذهب إلى البرية (أرض بلا شعب) ليفتحها ويستقر فيها ولا يحمل سوى مسدسه، وكلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف اثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة، والتي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه أسرع من الاخر، فإن هذا المنظر الذى انطبع فى مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الإجتماعية، وذلك أن الصراع من أجل البقاء هو سنة الحياة وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أي الأقوى أو الأسرع أو الأكثر دهاء ومكرا، وهي مجموعة من الصفات التى لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية، وحينما يظهر الهنود الأشرار، هؤلاء الإرهابيون (أصحاب الأرض الأصليين) الذين لا يتركونه وشأنه كي يرعى أبقاره ويبنى مزرعته، أي مستوطنته على أرضهم وأرض أجدادهم، يحصدهم هذا الكاوبوي برصاصه حصدا، دفاعا عن الأرض التي سلبها وسرقها، والفتاة البيضاء البريئة التي ترافقه وعن حقوقه المطلقه الأخرى، ونحن طبعا نستمتع بكل هذا دون أن ندرك أن الكاوبوي هو في واقع الأمر الرائد الصهيوني في فلسطين المحتلة، وأنه الإنسان الأبيض الإمبريالي الذي نهب ديارنا وثرواتنا وأذلنا (المستعمر)، وأن الهنود هم نحن العرب والفلسطينيون، وأن البرية هي في واقع الأمر، العالم الثالث بأسره، أرض بلا شعب أو شعب ينظر له الإنسان الغربي من خلال رؤيته العلمانية الإمبريالية الشاملة باعتباره مادة استعمالية يمكنه أن يحوسلها لصالحه، وهكذا نستوعب الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، بلا وعي ولا إدراك من جانبنا، حيث جاءت لنا مغلفة تغليفا أنيقا، جزءا عضويا كامنا فى بنيه فيلم.


وما قولكم أيضا في هذه النجمة السينمائية المغمورة (الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة، وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، جنسيا واجتماعيا وثقافيا، ثم تتناقل الصحف ووسائل الإعلام هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة، أليس هذا أيضا علمنة للوجدان والأحلام، إذ تحولت هذه النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية، والمسكينة لا علاقة لها بأية مرجعية ولا أية قيمة ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون رائعا، ولكنه ولا شك محدود ونسبي، كما أن خبراتها مع أزواجها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساسا لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية علمانية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية)، ومع هذا يصر الإعلام على أن فلانة أو علانة الممثلة أو المغنية لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة، وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة، وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو الدين أو للذوق العام وصفا دقيقا، ولكنه مع هذا لا يبين الدور الذي تلعبه هذه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتصوره لذاته وللكون.


وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماما، تؤثر في وجداننا وتعيد صيانة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهد أطفالهم (توم وجيري)، ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية)، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كما هائلا من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الإستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة (المولات)، يجدون أنفسهم يسلكون سلوكا ذا توجه علماني شامل، ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات، هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة، وربما كان بعضهم بل وأكثرهم لا يزال يعتبر نفسه مؤمنا دينيا وملتزما روحيا، حيث يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة.


الرغبة أو الغريزة الجنسية للإنسان تعتبر في عالم اليوم عل سبيل المثال مجرد نشاط مادي، شأنه شأن النشاط الإقتصادي، ومنه يمكن النظر للطاقة الجنسية للإنسان باعتبارها طاقة طبيعية/مادية، بحيث يمكن توظيفها داخل إطار السوق والمصنع، أي أن تصبح الطاقة الجنسية بذاتها مادة إنتاجية استهلاكية، ومن ثم يمكن أن تظهر تجارة/صناعة البغاء، وتصبح البغي العاهرة من أدوات الإنتاج، وهي في الماخور وبيوت الدعارة في تايلاند أو في أي مكان، لا تختلف كثيرا عن أبطال الإنتاج في المصانع السوفياتية أو الصينية أو الأمريكية، ولا أيضا عن اليهودي أو السلافي أو المعوقين في معسكرات الإعتقال النازية، إذ يتحول الجميع هنا إلى مادة استعمالية واستهلاكية، وطاقة محضة للإنتاج، فالإنسان مثلا في اللحظة الصينية والسنغافورية يتحول إلى طاقة إنتاجية وإلى قدرة شرائية تصب في عملية الإنتاج والاستهلاك القومي، بينما يتحول في اللحظة التايلاندية إلى طاقة جنسية تقدم خدماتها للمستهلكين من السياح، فتحسن الدخل القومي وتعدل ميزان المدفوعات لحساب الوطن، وفي اللحظة النازية والصهيونية، يتحول الإنسان غير النافع (اليهودي كمادة بشرية فائضة) إلى مادة استعمالية تزداد إنتاجيتها في معسكرات الإعتقال والسخرة أو في الدولة الصهيونية أو يتم التخلص منها في معسكرات الإبادة حسب مقتضيات الأمور (الأمر الذي يفيد الاقتصاد الوطني كثيرا).


هذا ونحن نعرف تماما، وذلك من خلال معرفتنا بالترشيد الإجرائي أو الأداتي وأخلاق الصيرورة، أن طبيعة العمل والهدف منه ليست لهما أية أهمية، والمهم هو كيفية إدارته (الأداء والإجراءات)، وكيفية توظيف الطاقة البشرية بأقل التكاليف لتحقيق أعلى عائد، ويبدو أن المجتمع الأمريكي الرشيد يمثل هذه الرؤية أحسن تمثيل، بل ويشارك في ترسيخ هذه الرؤية أو على الأقل قطاعات مهمة فيه، فمثلا حينما قبض على السيدة، سيدني بيدل باروز، وهي سيدة من أسرة باروز الأرستقراطية العريقة، والتي أتى مؤسسها على سفينة، الماي فلاور، وهي أول سفينة نقلت المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة، وحينما وجهت إليها تهمة إدارة حلقة دعارة في نيويورك، انطلقت في دفاعها عن نفسها من رؤية أحادية مادية صارمة ترفض أي تجاوز أو ثنائيات أو غيبيات، وبينت بما لا يقبل الشك أن الدعارة عمل إستثماري، أي بيزنس مشروع، هكذا وبعد فترة قصيرة من التردد، نرى كيف نفض الناس عنهم أية مرجعيات ميتافيزيقية متخلفة، وتقبلوا الرؤية الواحدية المادية، واستطاعوا أن ينظروا إلى سيدة الماي فلاور بشكل موضوعي، وتحولت قصتها من قصة صاحبة ماخور إلى قصة صاحبة عمل ناجح، وهو ما دفعها إلى نشر سيرتها الذاتية تحت عنوان (قصة حياة الماي فلاور - مدام أو حياة سيدني بيدل باروز السرية)، وأصبح هذا الكتاب من أهم الكتب المتداولة، وحققت المؤلفة أرباحا خيالية منه (كما هو الحال دائما مع مثل هذه الكتب في عصر الفضائح والترشيد الإجرائي)، بعد ذلك بعامين، صدر كتاب لنفس السيدة وكان أكثر إجرائية، فقد كان يسمى (آداب الماي فلاور: قواعد السلوك للراشدين المثقفين)، وهي عبارة تشير إلى أي شخصين بالغين يمارسان الجنس معا برضائهما، ولذا فعملهما شأن خاص بهما، وفي هذا الكتاب قامت المدام الواحدية المادية الصارمة بتعليم النساء كيفية التصرف بلباقة في الفراش، باعتبار أنها راكمت الكثير من المعرفة في مجال تخصصها، وبعد ذلك بعام واحد، قامت نفس السيدة الرائدة في مجالها والموضوعية في أدائها بتدريس مقرر في إحدى المدارس الحرة عن هذا الموضوع، وانتقل هذا الأمر بشكل أو آخر إلى بعض المعاهد العليا وأكاديميات البحوث المتخصصة، كما وأصبح تخصصا أكاديميا جديدا ومطلوب، حيث قامت إحدى مؤسسات الرفاه الخيرية (المجانية) في أستراليا، وهي إحدى المؤسسات المدنية الطوعية غير الحكومية داخل المجتمع، بترتيب دورات تدريبية للبغايا حتى يتمكنّ من تحسين أدائهن في ساعات العمل الشاقة والمضنية، وحينما سئل أحد مسئولي الدورة عن الحكمة من وراء ذلك، أجاب بحياد شديد ورشيد، أن التخصص هو إحدى سمات العصر، وأن كثيرا من عاملات الجنس لا يعرفن قواعد الصحة التي يجب مراعاتها، ومناهج الأداء المختلفة وحقوقهن وواجباتهن (وهذا هو قمة الترشيد الأداتي).


وهكذا يلاحظ كيف تم علمنة المصطلحات المستخدمة في وصف عملية تحول الإنسان المتكامل المركب إلى إنسان طبيعي وظيفي،  إقتصادي صيني وسنغافوري، جنسي وجسماني تايلاندي، إمبريالي نازي أو صهيوني استعماري إحلالي، وهذا أمر متوقع تماما ومتسق مع نفسه، فاللحظة العلمانية الشاملة النموذجية هي لحظة تشيؤ كامل وواحدية مادية، ولذا فإن ما يصلح لوصف الأشياء، أصبح يصلح لوصف الإنسان، واللغة المحايدة تجعلنا ننسى إنسانية الإنسان، ولهذا لم يكن النازيون يتحدثون مطلقا عن "الإبادة" وإنما عن "الحل النهائي"، ولم تكن "أفران الغاز" سوى "محارق" تستخدم من أجل الصحة العامة، كما ولا يتحدث الصهاينة عن فلسطين وإنما عن الأرض التي جاءوا "لزراعتها" لا لإغتصابها، ولا يتحدث أحد أثناء اللحظة الصينية والسنغافورية عن توظيف الإنسان وتسلعه وإنما عن "تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج، وتوفير الرفاهية والرخاء لأكبر عدد ممكن"، وذلك دون أية إشارة للأبعاد الكلية والنهائية، هذا ويعتبر تحييد المصطلحات في حالة اللحظة التايلاندية يستحق قدرا من التوقف، فإذا كان تحييد المصطلح في حالة اللحظة النازية مأساويا، فهو هنا ولا شك كوميدي، إذ يتحول البغاء إلى أهم القطاعات الاقتصادية (كما هو الحال في بعض الدول الاسيوية)، ومن ثم تصبح البغي مجرد عاملة جنس (سكس وركر)، وعضو في البروليتاريا الكادحة، حيث تقوم بنشاط اقتصادي منتج، ثم تتحول بالتدريج إلى بطلة قومية، وبعد قليل قد يصبح من واجب الجميع أن يؤدوا واجبهم القومي بتجريد كامل وحياد شديد والعياذ بالله، ولكن ليس بإمكان أحد أن يتحلى بمثل هذه الشجاعة وهذا الحياد (إلا فيما ندر)، فالبشر والحمد لله لا يمكنهم نزع القداسة عن ذواتهم تماما وببساطة مهما جرى.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart