قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

أردوغان بين علمنة الإسلام وأسلمة العلمانية

أردوغان بين علمنة الإسلام وأسلمة العلمانية

عالم السياسة يقوم على الاحتمالات المفتوحة دائما، لهذا يجب عندما نحكم على أي شخص سياسي أو يعمل في سلطة الحكم، أن نفرق بين ما إذا كان يمارس سلطة أو صاحب مسؤولية، أم أنه فقط صاحب أفكار ومبادئ ومنظّر، فالرئيس مثلا يستخدم أفكاره في التطبيق، بينما المنظر يضع أفكاره في الكتب والمحاضرات، وهذا يعني أنه لا يمكن الحكم على أي سياسي في العالم بناء على عالم أفكاره وتوجهاته وحدها كما نفعل مع المنظرين وأصحاب الرأي، ولهذا فإن ما يتفق عليه معظم العلماء والمثاليون في السياسة هو أن لكل سياسي تصريحات قديمة تنتقد تصريحاته بعد وصوله إلى منصبه، وذلك ليس من أجل الكذب أو الإخلال بالوعود، بل لأن الواقع العملي المعاش لا يستقيم إلا بذلك.


الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية، كانا دائما يقولان أن هناك دولة علمانية وليست علمانية، وعلمانية الدولة حسب مفهوم الحزب هي الوقوف على نفس المسافة تجاه جميع الأديان والمعتقدات، وأن هذا لا يتعارض مع الإسلام، وأنه لا يمكن لأي شخص أن يكون علمانيا، بل يجب أن تكون الدولة علمانية، وهذه نقطة مهمة، لأن العلمانية تعني التسامح مع كل المثل العليا المتفق عليها في الدولة وحمايتها، ونظام الحكم في البلاد يجب أن يقف على نفس المسافة فيما يتعلق بكل الأديان والأيديولوجيات والمعتقدات، وهذا ليس ضد الدين ولا مخالف للإسلام.


هذا وقال أردوغان إنه أسس حزبه لتقديم مفهوم جديد للديمقراطية، وأنه وحزبه قد جاؤوا أيضا بمفهوم جديد للعلمانية، وأضاف أنه لو كنا ناجحين في الماضي لما أسسنا حزب العدالة والتنمية، وأننا أوجدنا حزب العدالة والتنمية لحل هذه المشكلة، وللحصول على نظرة جديدة على آفاق العالم، وبهذه الطريقة نقترب من المكان الذي من المفترض أن نكون فيه، وأننا اتخذنا هذه الخطوة وقدمنا تعريفا جديدا للديمقراطية، وأظهرنا للعالم كيف يمكن للمسلم أن يمارس السياسة، كما توصلنا إلى تعريف جديد للعلمانية، وقلنا أن العلمانية غير مفهومة في تركيا بعد، فالعلمانية حسب مفهومنا هي التعايش بين مختلف الأفكار والأيديولوجيات والأديان بالطريقة التي يريدونها، وذلك مع حق هؤلاء في التعبير عما يشاءون في حدود القانون، وحكم البلاد في ظل المثل العليا المتفق عليها من الجميع في الدولة.


الظاهر أن كلام أردوغان هنا يعني أنه يؤمن بفكرة علمنة الإسلام، وهذا أمر خطير، فهو لا يعارض مثل الإسلام فحسب، بل يشوهها أيضا، وهنا نتحدث عن رئيس دولة يضع أفكاره موضع التنفيذ في إطار نظام دولي، ولسنا أمام مفكر مستقل، ينشر أفكاره وأطروحاته للثقافة العامة، طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار أن أردوغان رئيس وليس له شرعية مطلقة لا في بلاده ولا حتى أمام خصومه الخارجيين، ولا يحكم في عهد الخلافة أو في عزلة عن الدنيا التي صارت قرية صغيرة، لذلك قد لا يمكن الحكم عليه كمبدأ، كما ولا يمكن أيضا اعتبار أقواله أو أفعاله عذرا معه أو ضده وحدها، وذلك للوصول إلى حقيقة شخصه ومشروعه.


طبعا إذا بحثنا في الأرشيف سنجد تصريحات أردوغان القديمة تتعارض مع تصريحاته الحالية حول العلمانية، حيث عبر فيها عن موقف آخر من العلمانية، وذلك بإقراره بأن الإنسان لا يمكن أن يكون مسلما وعلمانيا في نفس الوقت، وتحدث أيضا عن علمانية الدولة، وانتقد الدستور الذي وضعه العلمانيون، ثم قال إنه لا يمكن فرض العلمانية على شعب من المسلمين، وانتقد أيضا مفهوم الحكم الممنوح للناس في النظام العلماني، وقال فقط الله تعالى الذي له القوة المطلقة.


هذا ومثلا عندما صرّح إسماعيل كهرمان في أبريل 2016، والذي عينه أردوغان رئيسا لبرلمان تركيا، أن تركيا بحاجة إلى دستور إسلامي، وأن عليهم إسقاط العلمانية من الدستور الجديد، غضبت المعارضة والأحزاب العلمانية في تركيا، وأعلن أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء، وغيره من قادة حزب العدالة والتنمية أن تصريحات كهرمان تمثله كفرد وليس بقية أعضاء الحزب، طبعا هذا الموقف يمكن أن يقرأه أي جانب حسب وجهة نظره، فمن يشككون في أردوغان وحزبه يرون في هذا دليلا قويا على أنه علماني، وأن هذا اعتراف واضح وصادق منه، أما الطرف الآخر فسيقول أن هذا ضرورة، وأن أردوغان لا يسيطر على البلاد، ولا يمكنه تغيير الدستور كيفما يشاء، وأصلا لا عربي ولا تركي قادر على تغيير الدستور في اتجاه الحكم الإسلامي دون تصادم مباشر مع الغرب.


وهكذا فإن تصريحات أردوغان حول إيمانه بالعلمانية لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وقد نتفق بشكل أساسي على أن أردوغان ليس علمانيا صلبا، أو بمعنى العلمانية الشاملة، ولا نستطيع أن نقول أيضا إنه يؤمن بالعلمانية الجزئية طالما أن لديه تصريحات سابقة تنفي ذلك، لذلك فالرجل بين الرغبة في علمنة الإسلام، أو أفضل القول إنه يريد أسلمة العلمانية، وهذا نتاج طبيعي لمشاركة واندماج الإسلاميين في السياسة ودهاليز الحكم، والذي بدوره أدى إلى تنازلات كبيرة منهم في كثير من الدول، ونجم الدين أربكان نفسه كان يتهم أردوغان بذلك، وهو أبرز زعماء تيار الإسلام السياسي في تركيا، وأكبر من تحدى قواعد العلمانية الكمالية المتشددة التي حكمت بلاده ومازالت منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي.


لكن أردوغان نجح أيضا بخطابه العلماني هذا في استقطاب بعض القوميين إليه، بحيث نجح في ربط القومية التركية بالإسلام في نفوس العلمانيين، لذلك فإن كل الإسلاميين العرب يقرون بخدمة أردوغان لبلاده، لكنهم يحذرون من أن أردوغان سيقدم بالتالي نموذجا للإسلام العلماني، وذلك عندما قال إنه يقدم مفهوما جديدا للديمقراطية والعلمانية، ويظهر للعالم كيف يمارسها المسلم في هذا العصر.


قد يتفق معظم الفقهاء الدينيين والسياسيين على مفهوم التقدم، لكن الخلاف حول التطبيق، لهذا السبب لا يبرر معظم الإسلاميين علمانية أردوغان وسياساته، وذلك من باب معارضة التقدم كأسلوب لتطبيق العلمانية في مجتمع مسلم، وفي نظام حكم إسلامي وليس في نظام مخالف للشريعة، ومع ذلك قد يقول طرف آخر أننا في وضع غير مسبوق منذ الإطاحة بالخلافة والحكم الإسلامي، بحيث أصبح لدينا اليوم مجتمعات ومنظمات إسلامية تقول إنها دينية إسلامية، ولكنها لا تكتفي بعدم تطبيق الشريعة فحسب بل تعارضها وتحاربها أيضا.


كما أن الواقع يقول لنا أننا لا يمكننا اعتبار أردوغان كافرا كما يفعل الكثيرون، لكننا هنا قد نواجه ثلاثة خيارات، أولا أن الذي يحكم به أردوغان هو بخلاف قول الله تعالى وعلى أهوائه، مع علمه أن الحق في ما أمر الله تعالى به، وهنا الفرق بين فاسق وظالم، وليس كافرا، والخيار الثاني هو أنه يحكم بالعلمانية ليرى المنفعة وتجاهل الشريعة، وما زال لا يعتبر كافرا، والخيار الثالث هو أنه يحكم بالعلمانية ويعتبرها أفضل من الشريعة، وهنا يصبح كافرا، ولكن بما أننا لا ندري هل هو جاهل أو يمارس التقية للضرورة، فلا يمكننا أن نحكم عليه أنه فاسق أو كافر، كما ويجب أن نبني آرئنا على قاعدة حسن التفكير في المسلم.


أصرّ أردوغان أصلا على تقديم حزبه على أنه حزب علماني وليس حزب إسلامي، وهذا قد يكفي للقول إن أي خطأ يرتكبه الحزب، وأي نظرية أو ممارسة سياسية يقدمها سوف يتم احتسابها على أساس العلمانية وليس على الإسلام، وذلك لأنه عندما وصل هو وحزبه إلى السلطة كانت ومازالت القاعدة الأساسية في تركيا هي العلمانية، كما وأنه لم يقم بإنشاء هذا النظام، ولكن كان عليه الاستمرار فيه بموافقته وحزبه على ذلك، بمعنى أنه لم يقم بتحديث الإجراءات التي تنكر الشريعة في النظام السياسي التركي مثل تطبيق العلمانية أو التحالف مع أعداء الإسلام، لكنه مستمر على طول العلمانية المقامة ويحاول إلغائها أو بالأحرى تعديلها في مراحل مختلفة، وهذا كله لهدف التقدم لاحقا كما يقول أتباعه وأنصاره.


وهنا قد يقول أحدهم، حسنا نحن نتفق مع تقدم أردوغان، ولكن لماذا لا يتحول إلى حاكم إسلامي الآن بعد كل هذه السنوات في الحكم، وفي السياسة يسمى هذا بالإصلاح والتغيير الجذري، وهذا المفهوم في نظري عاطفي وغير واقعي، كما أن أردوغان لا يملك القوة الكافية، داخليا وخارجيا ليكون كذلك، إضافة إلى أن هدف أردوغان النهائي ليس تطبيق الشريعة والخلافة، وذلك حتى لو استطاع جدلا تغيير الدستور وتحويله إلى الحكم الإسلامي.


وللتذكر هنا أن نجاح أردوغان المتتالي في جميع الانتخابات منذ عام 2002 ليس فقط نتيجة تدينه وإسلامه، ولكن لأنه قدم نموذجا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا عمليا ناجحا لتركيا، كما وله سجل شخصي نظيف نسبيا، هذا وإن الإحصاءات أيضا تظهر تراجع التدين في تركيا حتى مع إصلاحات أردوغان، وأن معظم الأتراك الآن ليسوا متدينين، ولهذا لا يمكن لأردوغان تبني الشريعة والخلافة والجهاد وغيرها من الأمور، حيث أن هدف أردوغان الأساسي هو التقدم والتطور المجتمعي باستغلال الديمقراطية للعمل في النظام العلماني السائد، ولهذا قد يكون أردوغان وحزبه قد قدموا أفضل خيار لتركيا عمليا، والمقارنة هنا يجب أن تكون مع كيف كان المجتمع التركي قبل حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية.


هناك ملايين المسلمين والعرب الذين يعتقدون أن نموذج أردوغان يدمج بين الديمقراطية السياسية والليبرالية الاجتماعية، والرأسمالية الاقتصادية، وأن هذا هو النموذج الصحيح والموافق عليها دينيا، وهذه كارثة كبرى، هذا وإذا كان نموذج أردوغان مقبولا دينيا كضرورة لمرحلة مؤقتة، فعليه هو وحزبه أن يعلنوا أن هذا النموذج هو الإجراء الصحيح والمؤقت للحكم، وغير ذلك فإن خصومهم السياسيين سيتهمون الإسلاميين بالنفاق، كما وأن البعض قد لا يفهم مفهوم الإدارة والتدرج في الحكم، وسيغضب من المشروع الإسلامي بالكامل ويرفضه، والمشكلة باختصار هي أنك إذا بررت التقية (النفاق) من الناحية القانونية فسوف تجد حواجز اجتماعية وسياسية ودينية وثقافية، وقد يكون أقل الحلول خطورة هو الصمت، وأعتقد أن أردوغان يمارس هذا الصمت والصبر أحيانا، ولعله يراهن على الأجيال القادمة، وهو ما يظهر في تصريحاته واهتمامه بالمدارس الدينية، ولكن الله تعالى وحده يعلم.


أخيرا نقول قد يكون أردوغان قد قدم أفضل خيار لتركيا عمليا، وذلك على الساحة العربية والإسلامية منذ سقوط الخلافة، ولكن نظريا قد لا يكون الخيار الأمثل، لأن العيوب والثغرات والتناقضات واضحة في تصريحاته حول العلمانية والديمقراطية ودمجها بالإسلام، كما من المحتمل أنه لا يرى العلمانية كحل نهائي، بل مجرد مرحلة، وإذا كان يعتقد أنها حل بالفعل، فعلينا أن نحذر المسلمين من الافتتان به واتباعه في كل شيء، وتبقى السياسة وخفايا الحكم والسلطة في دائرة الاحتمالات عموما فيما يظهر لنا، ولا يمكن تفسيرها سواء بالبحث العلمي أو الموضوعي، كما يجب ألا ننسى أن الاختلاف في التصنيف والخبرة وتوافر المعلومات والحقائق يلعب دورا في كل ذلك، وبهذا لا أجرؤ على إعطاء إجابة نهائية قاطعة بخصوص حكم أردوغان وحزبه.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart