المصالح العظيمة التي تحققت من فقه الموازنات في صلح الحديبية
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية (هي اليوم ضاحية من ضواحي مكة)، وجاءه عدد من سفراء قريش للتفاوض الواحد تلو الآخر، فكان أولهم بديل بن ووقاء الخزاعي الذي أشار على النبي أن يرجع لأن قريشا استنفرت كل قوتها لمنع دخول الرسول عليهم عنوة، فكان رد الرسول له: إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد أنهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا مادتهم مدة، ويخلون بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جنوا (أي استراحوا من جهد الحرب)، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتا، ولينفذن الله أمره.
فأخبر بديل قريشا بكلام الرسول،
فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- له نحو من قوله لبديل،
وكان عروة فظ بالكلام مع الرسول، ولكن الصحابة كانوا له بالمرصاد، ثم أرسلت قريش
رجلا من كنانة يقال له الحلس بن علقمة زعيم الأحابيش، فلما أشرف على النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم
يعظمون البدن فابعثوها له. فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال:
-سبحان الله- ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت
البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص
فقال: دعوني آته، فقالوا ائته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا مكرز وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ
جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سهل لكم من أمركم.
فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات، اكتب
بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدرى ما هو،
ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله
الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما
قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك
عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي رضي
الله عنه: امح رسول الله، قال: لا، والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- الكتاب، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين
البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من
العام المقبل فكتب، فقال سهيل: وعلى إنه لا يأتيك منا رجلا، وإن كان على دينك، إلا
رددته إلينا، قال المسلمون: -سبحان الله- كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما،
فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل
مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه
أن ترده إليَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. قال: فوالله
إذا لن أصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي. قال: ما أنا
بمجيزه لك، قال: بلى، فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال: مكرز بل قد أجزناه لك.
هنا قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت، وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسن على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام. قال: قلت: لا، قال: فإنك آتية ومطوف به، فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى آخرها. فقال عمر يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم.
(يقول البراء رضي الله عنه
قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة
الرضوان يوم الحديبية.)
بعد هذا السرد لصلح الحديبية، نلاحظ
فقه الموازنات في التعامل مع الأشخاص، فليست طريقة التعامل مع الخصوم والأعداء
واحدة، فهناك قليل العداوة الذي يقف موقف التوسط بين المسلمين وعدوهم، وهناك
اللئيم الغادر، وهناك الحكيم العاقل، وهناك الذي تؤثر فيه الأمور الشعائرية، لذلك
رأينا تعامل النبي مع هؤلاء السفراء بحسب طبيعتهم.
فهذا بديل بن ووقاء زعيم خزاعة –
حلفاء الرسول – الذي يقف في المنتصف بين قريش والرسول، وهو أقرب للرسول منه إلى
قريش، يظهر له الرسول الشدة والإصرار على الموقف مع بيان القوة ليدرك أن حليفهم
قوي فيزدادون ثقة به وبالتحالف معه.
وهذا عروة بن مسعود زعيم ثقيف وهو يبهره
منظر الزعامة والالتفاف حول القائد، وقد استعمل أشنع أساليب الاستفزاز ليفت من عضد
المسلمين، ولكنه وجدهم ملتفين حول قائدهم مما كان له أكبر الأثر على نفسيته ليعود
إلى قريش ليفت في عزيمتها، ولينصحهم بالخضوع لأمر الرسول، وبالتالي استطاع الرسول
قلب المجني على قريش بتحويل عدوه عن صفها إلى صف مطالبه.
وهذا الحلس بن علقمة زعيم الأحابيش
عندما يراه الرسول وهو يعرف طبعه وشخصيته، ولم يحتج الرسول إلى طول مناظرة معه،
وإنما أمر بإجراء عملي يعبر عن مقصده، وتدب الرهبة في قلب الطرف الثاني، فقال عليه
الصلاة والسلام: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له). فبعثت له
واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال -سبحان الله- ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن
البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن
البيت. فانقلب الحلس عن قريش، وهددهم بالحرب إن لم يفتحوا الطريق أمام الرسول
والبيت.
ثم كانت سفارة مكرز بن حفص، وقد أخذ
الرسول حذره منه لأنه كما قال عنه: هذا مكرز وهو رجل فاجر. ولم يطل النقاش حتى طلع
سهيل بن عمرو وهو الرجل السياسي المحنك الذي يؤثر السلم على الحرب، فقال النبي
عليه الصلاة والسلام: (لقد سهل لكم من أمركم)، فكان الصلح كما رأينا.
وهذا هو فقه الموازنات في التعامل مع
أصناف الناس، نتعلمه من رسول الله، ونتعلم القدرة على توظيف الطاقات وإدارة الحوار
والصراع من غير تشنج ولا ارتخاء، حيث نرى في بنود الاتفاقية أن رسول الله رضي
بالعدول عن (بسم الله الر حمن الرحيم) إلى (باسمك اللهم)، وعن (محمد رسول الله)
إلى (محمد بن عبد الله)، وقد اعترض الصحابة على ذلك ومنهم علي -رضي الله عنه- الذي
رفض أن يمحو اسم رسول الله، ولكن الرسول محاه بيده، وبذلك رأينا الرسول عليه
الصلاة والسلام يغلب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية على المصالح
والاعتبارات الشكلية التي يتشبث بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يظن لأول
وهلة أن فيه إجحافا بالجماعة المسلمة أو رضا بالدون، حيث رضي وحذف البسملة
المعهودة في وثيقة الصلح وكتب بدلها (باسمك اللهم)، كما وقبل أن يحذف وصف الرسالة
الملاصق لاسمه الكريم (محمد رسول الله) ويكتفي باسم (محمد بن عبد الله)، وذلك
ليكسب من وراء تلك الهدنة التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة ومخاطبة ملوك العالم، ولهذا
سماها الله تعالى فتحا قريبا.
أما الاصطلاح على وضع الحرب على الناس
عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد
حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من
قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، فقد
حقق ذلك للمسلمين مصالح كثيرة جدا منها:
- ضمان حياد قريش وعزلها عن أي صراع
يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى، أم مع
اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.
- حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم-
على أن يبقى الاتصال مفتوحا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعون منه بواسطة الرسل
والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال.
وبهذا دخلت المهابة في قلوب المشركين
والمنافقين، وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة
كثير من صناديد قريش إلى الإسلام مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، إضافة إلى مسارعة
الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.
كما أن دخول المسلمين بالقوة يعني أن
تحدث مذابح، وتزهق أرواحا كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين، ومن المحتمل أن
ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من
المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها.
قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-
في ذلك: (فإن قيلا: لما ألتزم في صلح الحديبية بإدخال الضيم على المسلمين وإعطاء
الدنية في الدين؟ قلنا: التزم ذلك دفعا لمفاسد عظيمة، وهي: قتل المؤمنين والمؤمنات
الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية، وفي قتلهم معرّة عظيمة على المسلمين،
فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين، وذلك
أهون من قتل المؤمنين الخاملين، مع أن الله -عز وجل- علم أن في تأخير القتال مصلحة
عظيمة وهي إسلام جماعة من الكافرين).
وقد اعترفت قريش في هذه المعاهدة
بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائما لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف
أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة،
كما أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به؛ مما أدى إلى دخول كثير من
القبائل فيه.
يقول الإمام الزهري رحمه الله: (فما
فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما
كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث
والمنازعة، فلم يكلم أحدا بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك
السنتان مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر).
وعقب عليه ابن هشام رحمه الله بقوله: (والدليل
على قول الزهري: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية في ألف
وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة
آلاف).
هذا ومكّن صلح الحديبية النبي -صلى
الله عليه وسلم- من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية
بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية، كما ساعد صلح الحديبية النبي -صلى الله عليه
وسلم- على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
وأما البند الذي ينص على أن (من أتى
محمد من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه)،
فقد رأى فيه الصحابة الضيم والذل، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وافق عليه،
وهو يكسب بذلك التخلص من المنافقين من صفوف المسلمين ليتبقى الصف المسلم منهم،
إضافة إلى زيادة العبء على قريش بتحمل الأعداد الكبيرة من المسلمين المستضعفين،
الأمر الذي سيولد الانفجار في المجتمع المكي، أو تسرب هؤلاء المستضعفين إلى مكان
محايد ليمارسوا الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على قريش، مع عدم تحمل المسلمين
تبعات ذلك، وهذا ما حصل عندما فرّ أبو بصير وأبو جندل وشكلا عصابة مسلحة مع من فرّ
من المستضعفين، فقطعوا على قريش تجارتها وضيقوا عليها، مما اضطر قريشا إلى التوسل
للرسول أن يسقط هذا البند من الاتفاقية.
وأما البند الذي ينص على (أنه من أحب
أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه)،
فقد فتح ذلك الباب أمام القبائل العربية المتخوفة من قريش إلى المسارعة للدخول في
حلف رسول الله وكانت أولها خزاعة، ثم تتالت القبائل، وهذا ما ساعد في تنامي قوة
المسلمين وفرض عزلة كبيرة على قريش وحلفائها.
وأما البند الذي ينص على (وأنت ترجع
عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عاما قابلا خرجنا عنك فدخلتها
بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها)،
في هذا البند في الظاهر مفسدة للمسلمين تتمثل بالرجوع عن البيت وقد جاؤوه قاصدين
متلهفين وعندهم القدرة على الدخول وتحطيم قوة قريش، ولكن الرسول وافق على هذا
البند مما أثار عدد من الصحابة منهم عمر -رضي الله عنه- واعتبروا في ذلك إعطاء
للدنية ورضا بالهون، ولكن الرسول سارع لتهدئة روعهم وطمأنتهم بأنهم سيأتون البيت
ويطوفون به، ولقد كسب الرسول بموافقته على هذا البند أمرين مهمين:
- الأول: دخوله مكة للعمرة في العام
المقبل وهو بكامل الراحة والطمأنينة، بل دخلها دخول المنتصر الذي دبّ في قلب العدو
الخور والضعف عندما رأوا عزيمة المسلمين وهمتهم العالية في الطواف والسعي.
- الثاني: الدعاية الإعلامية السيئة
لقريش حيث إن العقلاء حين يسمعون كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنه جاء معظما
للبيت، والمشركين يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه
فيقوى مركزه، ويضعف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.
وهكذا كان صلح الحديبية بكل المعايير
فتحا للمسلمين حققوا من ورائه مصالح لم يكونوا ليحلموا بها لولا الصلح، ولذلك
سمعنا البراء -رضي الله عنه- يقول: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة
فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية)، كما كان هذا الصلح سببا ومقدمة
لفتح مكة، حيث يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح
الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت
هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام
التي يقضيها قدر وشرع أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطئان تؤذن لها وتدل عليها).