القرارات الإلزامية
الإلزام هنا قد
يتناول كلا من الغاية المراد تحقيقها من وراء إصدار هذه القرارات وكذلك الوسيلة
المتبعة في تحقيق ذلك،وقد يتناول الغاية فحسب مع ترك وسيلة بلوغها للسلطة التقديرية
للمخاطب بالقرار ليتخير أفضل السبل في نظره لتحقيق هذه الغاية.
القرارات الملزمة في
كافة عناصرها
ونعني بذلك تلك القرارات ذات القدرة الذاتية على إنتاج
آثار قانونية ملزمة حالا ومباشرة،أو بمعنى آخر هو القرار القابل للنفاذ الفوري،أي عدم توقف إنتاج القرار لآثاره على تدخل لاحق من جانب من وجه إليه،حيث تتوفر
للقرار بهذه الصفة كافة العناصر التي تهيئه لكي يكون نافذا بذاته دون إضافة أي عنصر
خارجي على العناصر المكونة له.
ويعد القرار
الصادر عن المنتظم ملزما إذا ما توافرت له ما سبق من مواصفات،حتى ولو أطلق عليه
إسم آخر غير تسميته بالقرار الملزم،وحتى ولو إحتجب خلف صورة أخرى من صور القرارات
غير الملزمة،والقرارات الملزمة بهذا المعنى قد تكون بالنظر إلى دائرة المخاطبين
بما ترتبه من حقوق أو إلتزمات (قرارات فردية أو قرارات عامة)،والطائفة الأولى هي
التي تضم القرارات التي تتوجه بخطابها الملزم إلى المخاطب أو المخاطبين بها منظور
إليه أو إليهم في ذاتهم،ومثال القرارات
الفردية هي الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية ومحكمة
العدل الأوروبية والمحكمة الإدارية للأمم المتحدة)،أما القرارات الصادرة بتعيين
أو فصل موظف في المنتظم والقرارات الصادرة بتعيين الأمين العام للأمم المتحدة أو
رئيس محكمة العدل الدولية أو رئيس الجمعية العامة تكون منظورة إليهم في ذاتهم.
وإن القرارات الملزمة العامة تتوجه بخطابها بصورة
عامة ومجردة،أو بمعنى آخر فإنها ترسي قواعد سلوك عامة ومجردة (أي أنها ترسي قواعد
قانونية بالمعنى الفني الدقيق)،كما أنه ومن بين طائفة القرارات العامة الصادرة عن
المنتظمات الدولية،القرارات التي عرفت بإسم (اللوائح)،والتي فهمت من جانب كثير من
المنتظمات الدولية على أنها تشير إلى القرارات التي تنظم أسلوب سير العمل داخل أحد
أجهزة المنتظم.
كما وأن اللوائح الداخلية تعد من قبيل القرارات الملزمة
حالا ومباشرة لمن توجهت إليه بخطابها،وفي هذا يقول ريتر إن توصيات الجمعية العامة
للأمم المتحدة التي تنشئ الأجهزة وترسي قواعد عامة لازمة لسير العمل في المنتظم،ينبغي أن تعتبر ملزمة للمنتظم ولأجهزته وكذلك للدول الأعضاء فيه،وتظهر الخصائص
الملزمة الفورية والمباشرة لهذا النوع من القرارات المسمى باللوائح في حالة مخالفة
الأحكام التي يتضمنها،فأي قرار يصدر عن جهاز ما لم يراع فيه الشروط التي إستوجبتها
اللائحة يعد قرارا باطلا غير منتج لآثاره،كما أن ريتر يرى أن هذه اللوائح لها طابع
تسلطي على من توجهت إليه بالخطاب،وهو ما يجعل من ذلك الطابع إحدى السمات التي تحكم
علاقة المنتظم بالدول في مجال العلاقات الداخلية للمنتظم،على أن إصطلاح اللائحة
بإعتبارها قرارا عاما قد فهم على نحو آخر في الجماعات الأوروبية،إذ إنها تشير إلى
القرارات القاعدية الصادرة عن الجماعة الإقتصادية الأوروبية والجماعة الأوروبية
للطاقة الذرية،والتي تتضمن قواعد عامة تنفذ حالا ومباشرة على جميع الدول الأعضاء
في المنتظمين المذكورين وعلى رعاياها دون حاجة إلى تدخل من جانب هذه الدول،وهذا ما
نصت عليه المادة 189 من المعاهدة المنشئة للجماعة الإقتصادية الأوروبية والمادة
161 من المعاهدة المنشئة للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية،وهو أن (اللوائح ذات أثر
عام وهي ملزمة في كافة عناصرها،كما أنها تنطبق حالا ومباشرة في كافة الدول
الأعضاء).
القرارات الملزمة من حيث
الغاية دون الوسيلة
هذه صورة أخرى من القرارات الملزمة والتي نصت عليها
صراحة لأول مرة المادة 14 من المعاهدة المنشئة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب،كما
أن لها تطبيقات في منتظمات دولية أخرى مثل منظمة العمل الدولية ومنظمة اليونسكو،ومن الغريب في هذا النوع من القرارات أنه لم يطلق عليها
إسم القرار الملزم بل لم يطلق عليها إسم قرار إطلاقا،وإنما أطلقت عليه تسميات
مختلفة من جانب المنتظمات الدولية،فقد أطلق عليها إسم (توصية) في المعاهدة
المنشئة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب،حيث جاء في المادة 14/3 أن (التوصيات
تتضمن إلتزاما من حيث الغايات التي تهدف إليها ولكنها تترك لمن توجهت إليهم
بخطابها إختيار الوسائل الذاتية لتحقيق هذه الغايات).
بينما يطلق على القرارات التي لها ذات المضمون إسم (توجيهات)
في المعاهدتين المنشئتين للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية المادة 161 والجماعة
الإقتصادية الأوروبية المادة 189،وهي أن (التوجيهات تلزم الدول المخاطبة بها فيما
يتعلق بالنتائج اللازم التوصل إليها مع ترك إختيار الشكل والوسائل الذي تتحقق فيه
وبها هذه النتائج إلى الإختصاص الوطني للدولة المعنية).
وأخيرا فإن الفارق بين القرارات الملزمة من حيث الغاية
دون الوسيلة وبين القرارات الملزمة في كافة عناصرها،ليس في الطبيعة وإنما هو فارق
زمني بحت ينصرف إلى اللحظة التي ينتج فيه القرار آثاره،ففي التصرفات
القابلة للنفاذ الفوري تنتج هذه الآثار فور صدور القرار،أما في القرارات الأخرى فنجد
أن الآثار هي آثار مضافة إلى أجل إن صح التصور.
القرارت غير الملزمة (التوصيات)
التوصيات هي قرارات تغيب عنها القوة الملزمة للآثار
القانونية التي تنتجها،أي أن هذه القرارات ليست لها القدرة الذاتية (إستقلالا عن
تدخل عناصر أخرى خارجة عن العناصر المكونة لها) لإنشاء حق أو إلتزام لصالح المخاطب
بها أو على عاتقه،ولكن هذه القرارات ليست مجردة من أي أثر قانوني،بل إن النظام
القانوني للمنتظم يسند إليها القدرة على إنتاج سمة آثار قانونية معينة تدنو
مرتبتها عن مرتبة إرساء الحقوق والإلتزمات،ولقد جرى الفقه في غالبيته على إطلاق
إصطلاح التوصية على هذا النوع من القرارات.
مع العلم أن هناك آراء فقهية مختلفة حول تحديد ما هية
الآثار القانونية الناتجة عن التوصية،ومن أبرزها أن التوصية تخلق ما يمكن تسميته
بالشرعية الدولية،بمعنى أن الإقتضاء الذي تتطلبه التوصية من المخاطب بها،يعد
بمثابة تعبير عن رأي القانون الدولي بصدد المسألة التي صدرت التوصية بشأنها،حيث أن
(التوصية تخلق قرينة قانونية على شرعية السلوك الذي يتفق مع مضمونها)،ولقد ورد سند
لذلك في العبارة الواردة في الفقرة 2 من المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة وفي
التفسيرات الفقهية التي أعطيت للعبارة،فالمادة المذكورة تنص على أن (أعضاء
المنتظم يقومون في حسن نية بالإلتزمات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق)،كما
وقد ذهب جانب من الفقه إلى تفسير العبارة السابقة في شأن التوصيات على أساس أنها
تعني أن الدول لا تستطيع أن تضرب صفحا عما جاء في التوصية ولا أن تتجاهلها تجاهلا
تاما،بل إن عليها إما تنفيذها وإما أن تقدم تبريرا لإمتناعها عن التننفيذ،ولكنها
في جميع الأحوال لا تستطيع أن تذهب إلى عكس ما إقتضته التوصية.
وعلى ذلك فإن الدول التي تنصاع إلى ما أمرت به التوصية
أو إنتهت عما نهت عنه من سلوك،إنما تفعل ذلك وهي مطمئنة إلى مشروعية مسلكها
وإتفاقه مع القانون الدولي،أما إذا إمتنعت عن ما جاء في التوصية،ظل موقفها هذا
مشوبا بعدم المشروعية حتى تقدم الدليل على عكس ذلك،أي تقدم الأسباب التي تبرر هذا
الإمتناع،ويظل هنا المنتظم هو الحكم في تقدير وجاهة هذه المبررات.