إن إستيقاظ
المشاعر يسبق في حياتنا دائما إستيقاظ الفكر،ذلك أن الدين يحس ويعاش قبل أن يكون
فكرا،ولهذا ليست العقائدية هي التي تنظم الإيمان وتحكمه،بل إن الإيمان هو الذي
تتولد عنه العقائد،ونحن نعلم أن كثيرا من العقائد تتولد أثناء صراعات
الإيمان،وأنها من بعض الوجوه تحمل طابع الإمكان وأنها تحبس نفسها إن صح التعبير في
الصيغ التي تمليها الظروف.
لهذا
فإن إشتعال الخصومة بين الإبداع والتعلق بالقديم الموهوم داخل العالم الإسلامي قد
تزامن مع ما آل إليه من إحباط وعجز عن إعادة البناء منذ عقود،وذلك مع زحف أنماط
الحياة الريعية والإستهلاكية بسطوتها على الأفراد والجماعات،حتى صاروا كيانات صماء
وعاجزة لا تدري من أمرها ومن أمر ذاكرتها الإسلامية المتواترة شيئا،وفي مقدمتها
(القرآن الكريم) نفسه،الذي يستخدم أساليب التصوير الفني،وهو تصوير يجري عبر طرق
تشمل التشخيص بواسطة التخييل والتجسيم،لذا يخلع (القرآن) ـ أحيانا ـ الحياة على
الأشياء الجامدة،ويلجأ ـ أحياناً أخرى ـ إلى الصور الحسية والحركية للتعبير عن
حالة من الحالات أو معنى من المعاني،إلى جانب دور الإيقاع الموسيقي في
(القرآن)،وهو متعدد المعاني ويتسق مع الجو النفسي ليؤدي وظيفة أساسية في
البيان،حيث لا يرد المعنى الفعلي العام في القرآن بطريقة تقريرية،بل يتوهج بصورة
متعددة،لتشع في نفس القارئ إحساسا وتأثيرا يتغلغل إلى كل جنبات الكيان
والوجدان،فيرهف ويرق،حيث قال الله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ
تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة 83)،وذلك
فيما يتصل بالنظر الإسلامي إلى دور الإبداع الفني في تثبيت الإيمان من عدمه.
وإذا
نظرنا إلى الذين يرتابون من الفن بذرائع دينية،لألفينا الكثير منهم ممن يرتعدون خوفا
من حرية التفسير والإجتهاد ويتجمدون عند الحرف،خشية ما تؤدي إليه الحرية من تحطيم
عالمهم المستقر الذي يجدون فيه الأمن والنفوذ،فكأنهم يمثلون فرقة من (الكهنوتية
الشمولية) تشغب على كل من يحاول الإفلات من سطوة تفسيراتهم الجامدة أو ممن يجعلون
من الدين أداة بطش وترويع ليستمدوا منه سلطانهم أو ممن يخشون على أنفسهم من الفتنة
والتفكير،فيسمرون أقدامهم حيث تقف عقولهم ويتدثرون بما يحجبها عن التأثر بأية
مشاعر أو أفكار أو ممن أتخموا في شبابهم بالآثام والخطايا ثم يحاولون التكفير عما إقترفوه
بإتخاذ مواقف متطرفة من مهنهم السابقة أو ماضيهم القديم أو ممن تسطحت عقولهم بفعل
الجهل بكل شيء وضمرت تجاربهم،فلا يسيغون إلا ما يتملق جهلهم وضيق أفقهم.
ولا
ريب في أن حال هؤولاء أو أولئك يتعارض مع دور العمل الفني الذي يتميز بشحذ قدرات
الإنسان على إنتاج أشكال جديدة،دون أن يكون منافسا لغيره من المجالات،فيهدي أصحاب
المجالات الأخرى من خلال تلك الأشكال الجديدة إلى إكتشاف الينابيع النضاحة للحياة
والإمكانات الثرية للوجود،ويلفتهم إلى قدراتهم الواعدة لإعادة النظر وتعديل
المسار،تمهيدا للتقدم في مجالاتهم خطوات أبعد وأفضل،أما ما يخالف ذلك من فنون
هابطة أو رديئة فإنها لا تدرج ضمن معايير الفن التي تبرز فاعلية الإنسان في كل مجالاتها،على الأرض المحايدة للسديم المتجانس.