قضية جاسوس بريء
يذكر
التاريخ أنه في القرن التاسع عشر في فرنسا،دشنت قصيصة من الورق واحدة من أكبر
الفضائح السياسية في التاريخ،فقد تم العثور على قصيصة الورق هذه في عام 1894م عن
طريق ضباط في هيئة الأركان العامة الفرنسية،وقد كانت ممزقة وملقاة في صندوق
المهملات الورقية،ولكن عند إعادة تجميع أجزائها معا تم إكتشاف أن هناك شخصا ما في
نفس الصف العسكري كان يبيع الأسرار العسكرية للألمان.
لذا
بدأوا تحقيقا موسعا وإلتقت شكوكهم جميعا وسريعا عند هذا الرجل،إنه (ألفريد دريفوس)
وهو ليس ذا سوابق في الأعمال المخالفة للقانون ولا يملك دوافع لفعل ذلك على حد
زعمهم،لكن (دريفوس) من جهة أخرى كان الضابط اليهودي الوحيد الذي يحمل هذه الرتبة
العسكرية في الجيش الفرنسي،ويذكر هنا أنه في هذا الوقت كان الجيش الفرنسي معاديا
وبشدة للسامية.
قامت
فرق التحقيق بمقارنة خط اليد لـ (دريفوس) بالخط المدون به الملحوظة في قصيصة الورق
وإستنتجوا أن بينهما تطابقا على الرغم من أن خبراء الكتابة اليدوية خارج الجيش
كانوا أقل ثقة من هذا التطابق،إلا أنهم لم يذكروا شيئا عن ذلك.
قاموا
كذلك بتفتيش شقة (دريفوس) بحثا عن أي أمارة تعضد تهمة الجاسوسية في حقه،ففتشوا
ملفاته ولكنهم لم يجدوا شيئا يدينه،فزادهم قناعة أنه ليس مذنبا وفقط وإنما ماكر
حاذق ليخفي كل الأدلة التي ربما تدينه قبل أن تقع في أيديهم.
بعد
ذلك شرعوا في التنقيب في تاريخ الرجل الشخصي عن جرائم قد تورط فيها،فتحدثوا إلى
معلميه ووجدوا أنه قد درس اللغات الأجنبية في المدرسة،والذي يكشف جليا عن رغبة في
ذاته للتآمر مع الحكومات الأجنبية ضد بلاده،معلموه أيضا ذكروا أنه كان معروفا بقوة
الذاكرة والذي يعضد شكوكهم،أليس كذلك ؟ كما تعلمون الجاسوس عليه أن يتذكر تفاصيل
كثيرة.
وهكذا
دخلت القضية باحة المحكمة،ووجد (دريفوس) مذنبا،فتم إقتياده إلى ميدان عام وجردوه
من شارته العسكرية بشكل طقوسي وكسروا سيفه إلى نصفين كصورة من صور التخفيض من
رتبته وإهانته.
لكن شيء
واحد في الحقيقة يعد مثيرا بشأن قضية (دريفوس)،وهو لماذا كان الضباط مقتنعين بشدة
أن (دريفوس) كان المذنب ؟
أعني
أنك ربما عند هذه النقطة تفترض أنهم كانوا يحاولون تلفيق التهمة إليه عن قصد،لكن
المؤرخين لا يعتقدون ذلك،وبقدر ما كان الضباط مؤمنين أن التهمة في حقه كانت قوية جدا
وأنه لا أحد غيره مشتبه،يجعلك ذلك تتساءل: أي نوع من العقول البشرية هذه التي تجد
في أمارات تافهة دليلا كافيا لإدانة الرجل ؟
لحسن
حظ (دريفوس) لم تنتهي قصته بعد،فهذا الكولونيل (بيكارت) صاحب الرتبة العالية في
الجيش الفرنسي وكغيره من أبناء الجيش قد إفترض أن (دريفوس) مذنبا ومعاديا للسامية أيضا
بشكل غير رسمي،لكن شك قد بدأ يتسلل لنفسه مفاده: ماذا إن كنا جميعا مخطئون في حق (دريفوس)
؟
والذي
حدث أن الكولونيل (بيكارت) كان قد أكتشف دليلا على أن عمليات الجاسوسية لحساب
الألمان لا زالت مستمرة رغم القبض على (دريفوس) المدان بذلك من قبل ورغم الزج به
في غياهب السجن ! كما وإكتشف أيضا أن هناك ضابطا آخر في الجيش يتطابق خط يده تطابقا
تاما مع الخط الذي كتبت به الملحوظة في قصيصة الورق صاحبة القصة بمعدل قد تجاوز
تطابق خط يد (دريفوس).
وهكذا
تم جمع وتسليم هذه الأدلة والإكتشافات الجديدة من قبل الكولونيل (بيكارت) ووضعها
بين يدي قياداته في الجيش،ولكن الذي أثار ذعره وإستياءه أنهم إنقسموا بين غير مبال
بأدلته أو مسوغ ذلك بأن هناك جاسوسا آخر في الجيش قد تعلم أن يحاكي خط يد (دريفوس)
وإستلم شعلة الجاسوسية بعده،غير أن (دريفوس) لا يزال مذنبا في نظرهم !
لكن في
نهاية الأمر تمكن الكولونيل (بيكارت) من تبرئة (دريفوس)،إلا أن ذلك إستغرقه عشر
سنوات،ولبعض هذا الوقت كان هو نفسه في السجن بتهمة عدم إخلاصه للجيش !