قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

ثورة لبنان على نظام الفساد الحاكم

ثورة لبنان على نظام الفساد الحاكم
يواصل اللبنانيون تظاهراتهم للمطالبة برحيل الطبقة السياسية الحاكمة، والتي يتهمونها بالفساد والعجز عن إيجاد مخرج للأزمة الاقتصادية الخانقة، حيث انطلقت المظاهرات المناوئة للحكومة مساء 17 من الشهر الماضي، نتيجة إعلان الحكومة ضرائب جديدة منها ضريبة على استخدام تطبيق "واتساب" للتراسل، والتي عدلت عنها بعد ساعات لما سببته من غضب شعبي، إلا أن الاحتجاجات اجتاحت جميع أنحاء البلاد وتحولت إلى تعبير عن الغضب ضدّ النظام السياسي بأكمله، والذي يلقي عليه الشعب اللبناني باللوم على عقود من المحسوبية والفساد والاستغلال، حيث قطع المحتجون الطرقات في عدد من المناطق اللبنانية، خصوصا الطرقات الرئيسية المتجهة من بيروت إلى محافظات الشمال والجنوب وبعض مناطق جبل لبنان.

لقد كان السبب المباشر للاحتجاجات هو خطة حكومية لفرض ضريبة تقدر بعشرين سنتا أميركيا ابتداء من عام 2020 على المكالمة الأولى التي يقوم بها المستخدم يوميا من خلال استخدامه تطبيق واتساب، ولقد ذهبت بعض وسائل الإعلام إلى حد وصف احتجاجات لبنان بأنها "ثورة واتساب"، كما ناقشت الحكومة أيضا زيادة تدريجية في ضريبة القيمة المضافة، والتي تبلغ حاليا 11٪، إضافة إلى فرض رسوم على البنزين (المحروقات) كجزء من دعم ميزانية التقشف المخطط لها، وذلك لعجز الحكومة عن اجتياز أزمة ديون وشيكة، حيث يعتبر لبنان أحد أكثر البلدان مديونية في العالم، وهو يكافح من أجل إيجاد مصادر جديدة للتمويل، لأن التدفقات الأجنبية التي اعتمد عليها تقليديا قد انتهت.

هذا ونقلت رويترز عن مسؤولين بالحكومة وبعض الساسة والمصرفيين والمستثمرين أن لبنان قد يواجه احتمال تخفيض قيمة العملة أو حتى التخلف عن سداد ديونه في غضون أشهر، إذا لم يحصل على دعم مالي من الخارج ويقنع حلفائه في المنطقة والمانحين الغربيين بمساعدته، وذلك لأن احتياطاته المالية تتناقص بسرعة، حيث هبطت الاحتياطيات الأجنبية باستثناء الذهب بنسبة 15% خلال الأشهر الـ 16 الماضية إلى نحو 39 مليار دولار.

الاحتجاجات الشعبية في لبنان تشير إلى أن المشهد السياسي الطائفي لفترة ما بعد الحرب قد وصل إلى طريق مسدود، وأن كثيرا من الناس لم يعودوا ينصاعون لذلك، لكن الحكومة تفضل استمرار النظام الطائفي والفساد للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، حيث إن الفساد في القطاعين الخاص والحكومي ساعد على تشكل الاقتصاد السياسي لفترة ما بعد الحرب، ولكن بتكلفة عالية تسببت في وصول الوضع المالي للدولة إلى حافة الانهيار، والمحتجون أصبحوا يرفضون هذا الفساد الاقتصادي والاجتماعي وانتهاك كرامة المواطنين الناتج عن هذا النظام الطائفي السائد، ويبحثون عن مستقبل أفضل خارج عن الهويات الطائفية ومسقطا لها.

المظاهرات التي انطلقت في17 من أكتوبر/تشرين الأول هي الأضخم في زخمها وانتشارها، ولكنها تأتي ضمن سلسلة من الاحتجاجات بدأت منذ سنوات، حيث شهدت مدن لبنانية في 27 من فبراير/شباط 2011 احتجاجات تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية، ولإنهاء حالة وصفها المحتجون وقتها بالتقسيم الطائفي للبلاد، دون أن تؤدي لأي تداعيات، وفي 22 من أغسطس/آب 2015، دفع التراكم غير المسبوق للنفايات في الشوارع اللبنانيين لاحتجاجات غاضبة وواسعة النطاق متهمين الحكومة بالفشل، وبالمسؤولية عن تردي الأوضاع جراء الفساد، فعلى مدار أربع سنوات، ظلت أكوام القمامة تتكدس في الطرق وعلى الشواطئ، وتفاقمت تبعاتها من تلوث في الماء والهواء وخطر انتشار الأمراض، واعتبرت الأزمة أحد تجليات فساد مؤسسات الدولة، إذ أن الشركة المسؤولة عن جمع القمامة تتولى المهمة بشكل احتكاري منذ تسعينيات القرن العشرين، كما واستخدمت الشركة أحد مقالب القمامة لمدة 12 عاما أكثر من طاقته الاستيعابية، وفي ظل غياب بنية تحتية وآليات مناسبة لجمع القمامة والتخلص منها، لم تجد الشركة مكانا للقمامة سوى الشوارع، وقد أججت هذه الأزمة احتجاجات حملت شعار "طلعت ريحتكم"، وخرج الآلاف في مسيرات في أغسطس/آب 2015 تندد بالفساد وتطالب بمحاسبة المسؤولين وبتغيير السياسات التي أدت إلى هذه الأزمة، حيث اعتبرت منظمة الشفافية الدولية هذه الأزمة ضمن أكبر فضائح الفساد في العالم في آخر 25 عاما.

هذا وبعد سنتين كانت العاصمة بيروت على موعد جديد مع الاحتجاجات الشعبية، ففي 19 من مارس/آذار 2017، خرجت مظاهرات في أكثر من منطقة جراء خطط حكومية بإقرار زيادة ضريبية لتمويل رواتب العاملين بالقطاع العام، وفي العام نفسه وبعد ستة أشهر أي في سبتمبر/أيلول، نفذ موظفو القطاع العام ومعلمو المدارس الرسمية إضرابا للمطالبة بإقرار النظام الجديد للرتب والرواتب، وقد أقرها البرلمان في وقت لاحق، هذا وفي أبريل/نيسان الماضي من هذا العام، كانت هناك اعتصامات وتحركات احتجاجية للعسكريين المتقاعدين رفضا للمس بمكتسباتهم وحقوقهم التقاعدية في مشروع موازنة الدولة لعام 2019.

وهكذا نلاحظ كيف يهدد الفساد وعدم الاستقرار فرص الاستثمارات ونمو قطاع الأعمال في لبنان، فقد نشرت منظمة "فريق القيادة الدولية" لاستشارات وتقييم طرق الإدارة تقريرا عن وجوه الفساد في لبنان، والتي من شأنها التأثير على قطاع الأعمال، فعلي الجانب المالي، يعاني لبنان من قوانين غير مستقرة فيما يتعلق بفرض الضرائب والرسوم الجمركية (خاصة في الواردات)، وتعد الرشوة والمحاباة من أكبر العوائق التي تهدد قطاع الأعمال، إذ تؤثر في ميزانيات الشركات واستقرارها المالي، كما تؤثر على التنافسية في السوق، هذا ويشير التقرير إلى غياب إطار قانوني وقضائي واضح يمكن الشركات من الاحتكام إليه حال وجود أي خلافات مع الدولة أو القطاعات الأخرى، كما أن غياب الشفافية وانتشار ثقافة الرشى يهدد حيادية المؤسسات الأمنية والقضائية.

وبحسب مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، حصل لبنان عام 2018 على 28 من مئة نقطة فيما يتعلق بفساد القطاع العام، وهو ما يجعله واحدا من أشد البلدان فسادا في المنطقة، حيث يحتل لبنان المركز 138 عالميا بين 180 دولة، كما وذكرت المنظمة أن مؤشرات الفساد في لبنان مستقرة، وإن كانت تخضع للملاحظة بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

وتضع كل وجوه الفساد هذه الاقتصاد اللبناني في وضع خطير، في وقت تزيد الحاجة فيه للاستثمارات لدعم الوضع الاقتصادي المتردي، وتشير إحصائيات البنك الدولي إلى تراجع النمو في لبنان في العامين الأخيرين، حيث تراجع إجمالي الناتج المحلي الحقيقي العام الماضي ليكون 0.2 في المئة، مقابل 0.6 في المئة عام 2017، ويقول البنك إن لبنان حصل على 2.17 مليار دولار من المساعدات منذ 18 مارس/أذار 2018، وشملت 15 قطاعا من بينها المياه والنقل والتعليم والصحة والقضاء على الفقر والبيئة وتوفير الوظائف.

الحراك اليوم مختلف عن الاحتجاجات التي كانت في السابق، وما يميزه امتداده إلى المناطق كافة، خصوصا أنه عمّ الجبل والجنوب والشمال وقلب العاصمة بيروت، وهكذا نزل عشرات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع وصبّوا جام غضبهم على النخبة السياسية، وذلك في تحد نادر للعائلات السياسية من مختلف الطوائف وأمراء الحرب الذين أوصلوا البلاد إلى حد الخراب، وفي مؤشر لتصاعد حجم النقمة الشعبية، بدا لافتا خروج مظاهرات غاضبة في مناطق محسوبة على تيارات سياسية نافذة، أحرق ومزق فيها المتظاهرون صورا لزعماء وقادة سياسيين، رافعين الأعلام اللبنانية لا الحزبية، ومطالبين بلقمة عيش بعيدا عن الانتماءات والحسابات الطائفية الضيقة، ولم يسلم أي زعيم، مسيحيا كان أو مسلما، من غضب المحتجين، وذلك في استعراض نادر للوحدة في بلد تمزّقه الطائفية وتتحكم في مفاصله السياسية وتحدد أسقف مواقفه وتحركاته.

لقد تجاوز اللبنانيون سقوف الأزمة الاقتصادية التي حركتهم، وامتد خطابهم وشعاراتهم ومواقفهم إلى النظام السياسي الذي يحكمهم ويتحكم في مصائرهم طيلة عقود من الزمن، وهو تمرد واضح على النظام السياسي الذي أفرزته الحرب الأهلية وتوافق عليه سياسيو لبنان في الفترة اللاحقة عليها، حيث أن هؤلاء القادة السياسيون يتحكمون في كل مفاصل المشهد اللبناني، لهذا بدأ المتظاهرون بالمطالبة بإسقاط الرئاسات الثلاثة في لبنان، حيث أنه وبموجب النظام السياسي في لبنان، توزع المناصب السياسية العليا وفقا للطائفة، وهو ما أدى إلى نظام من المحسوبية تمكن السياسيون من استغلاله ببراعة.

مطالب المحتجين في لبنان تهدف إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ومحاسبة الطبقة السياسية الحاكمة، واسترجاع الأموال المنهوبة، كما أن رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري كان قد اتهم شركاءه فيها بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان، وذلك بسبب عرقلتهم مقترحاته للإصلاح، والتي تم إقرارها فيما بعد على الرغم من أنها جاءت دون التوقعات، حيث أن حكومة الحريري عبارة عن تعايش هش بين معظم التجمعات السياسية، ويتمثل الخوف في أنه إذا استقال الحريري وحلفاؤه، أن ينتهي الأمر بلبنان إلى حكومة يهيمن عليها حزب الله، مما يجعل من الصعب جذب الاستثمار والمساعدات، وحتى أن منافسي الحريري الرئيسيين داخل الحكومة حذروا من أن انهيار الحكومة يمكن أن يضرب الاقتصاد ويؤدي إلى الفوضى.

هذه الانتفاضة ستبدّل وجه لبنان، خصوصا في مواجهة سلطة المال وحكم المصارف ورموز الإقطاع السياسي والمحاصصة الطائفية، كما أن خطاب الشباب اللبناني له وقع وطني عامر عابر للطوائف والمذاهب، إضافة إلى أن المرأة اللبنانية الآن تلعب دورا في صياغة المطالب الشعبية حتى لناحية التواجد في الساحات، وإنتاج بديل جديد قادر على إنصاف المرأة اللبنانية، وتحقيق نوع من أنواع المساواة في العدالة الاجتماعية، لا سيما لجهة بناء دولة مدنية، ومحاسبة الفاسدين من السياسيين، وإعادة المال المنهوب، هذا وقد يكون المدخل الحقيقي لأي عملية إصلاح قادمة، يتمثل في إقرار قانون انتخابي عصري نسبي (لبنان دائرة واحدة)، مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart