التطبيع.. استسلام وتنازل ومذلة
التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين عرب وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات)، ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، هو بناء علاقات رسمية وغير رسمية، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية واستخباراتية مع دولة الكيان الصهيوني، والتسليم لها بحقها في الأرض العربية بفلسطين، وبحقها في بناء المستوطنات، وحقها في تهجير الفلسطينيين، وحقها في تدمير القرى والمدن العربية، وهكذا يكون التطبيع هو الاستسلام والرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان، والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق.
التطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو استراتيجية أو غيرها، لكن وبغض النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع يبقى واحدا وهو جعل الوجود اليهودي (الصهيوني) في فلسطين أمرا طبيعيا، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنى تطبيعيا.
التطبيع في الصراع العربي الصهيوني يقصد به الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع، والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وآليات الصراع إلى آليات تطبيع، وبالتالي التخلي عن مشروع الأمة والانصياع لخدمة المشروع الصهيوني، كما أن جوهر التطبيع يتمثل في إحداث تغيير على الجانب العربي والإسلامي، بحيث يبدأ هذا التغيير بالتسليم بوجود (إسرائيل) كدولة يهودية في المنطقة وإدماجها فيها، وصولا إلى تغيير المواقف تجاه هذا الكيان بصورة جذرية، وذلك كله من خلال تنفيذ صفقة القرن (المزعومة) التي ستحقق لإسرائيل مآربها الصهيونية، والوصول إلى بناء شرق أوسط جديد، يضم حكومات جديدة تناسب بنود مؤامراتهم.
التطبيع العربي مع إسرائيل يشكل خدمة مجانية للاحتلال لمواصلة عدوانه على فلسطين، ويشكل طعنة في خاصرة الشعب الفلسطيني وتفريط لحقوقه الوطنية، كما وأنه يتعارض مع قرارات القمم العربية والإسلامية وحتى مع مبادرة السلام العربية، لكن للأسف استغل بعض العرب التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل كذريعة لتطبيع علاقاتهم معها، ولذلك فإنه يجب إلغاء (اتفاقية أوسلو) التي كرست الاحتلال والاستيطان وتهويد مدينة القدس، ورسخت فكرة (خيانة) التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي لملاحقة المقاومين في كل شبر من الضفة الغربية وبمساعدة السلطة الفلسطينية، مما ألحق أضرارا فادحة بالقضية الفلسطينية، حيث ازدادت معاناة الشعب الفلسطيني، لأن بنود الاتفاقية نفذت فقط لصالح الجانب الإسرائيلي المغتصب، والذي ما زال حتى اليوم يصعد في انتهاكاته لحقوق هذا الشعب المقاوم، بين قتل واعتقالات وهدم للبيوت وحصار وغيرها الكثير، ولهذا فإن إلغاء هذه الاتفاقية المشؤمة من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام المطبعين العرب، ويعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى شاء من شاء وأبى من أبى.
هذا وفيما مضى كنا لا نلحظ وقوف أنظمة عربية بشكل علني مع هذا الكيان، ولكن مع مرور السنوات أصبحت الأمور تتوضح، وبتنا نشاهد بالعين صفقات وترحيبات بهذا العدو وجهارة، كما أن أصدقاء إسرائيل، خرجوا من الظل إلى العلن، والهدف الأكبر لهم هو القضاء على أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للشعوب العربية، لهذا فإن أعداء اليوم هم أنظمة وحكام وساسة ومثقفين وإعلاميين، يعيشون بيننا ويخربون العقول ويحملون شعارات التجديد في الدين والحداثة والوسطية، لكنهم يمررون السم في العسل، ويقودون حملة ممنهجة للتطبيع، ويجهلون أن مستقبلنا واحد ومصيرنا واحد ويتهددنا خطر واحد هو الخطر الصهيوني.
الزعامات والنخب السياسية والثقافية العربية المفرطة بحقوق شعوبها تلجأ كلما شعرت بأن سياساتها قد وصلت إلى طريق مسدود إلى توجيه غضب الناس في بلدانها باتجاه الشعب الفلسطيني محملة إياه مسؤولية فشلها وإخفاقها، كما أنهم عملوا مؤخرا على اتخاذ خطوات سريعة لنقل التطبيع مع إسرائيل من السر إلى العلن، والسماح لأصوات مشبوهة في بعض البلدان العربية والخاصة الخليجية منها بشن هجوم أيديولوجي مرّكز وممنهج على الشعب الفلسطيني، بما فيها اتهامات باطلة له بأنه باع أرضه لليهود وأصبح عبئا على العرب، وهم لا يعلمون أن المشروع الصهيوني يريد أن يغتصب فلسطين ليجعلها منطلقا للوثوب على بقية البلدان العربية واحتلالها ومنها السعودية، وذلك في إطار ما يسمى بمخطط إقامة إسرائيل الكبرى.
هذا وباستثناء مصر والأردن، اللتين ترتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، لا تقيم أية دولة عربية أخرى علاقات رسمية معلنة مع إسرائيل، لكن مسؤولين إسرائيليين أعلنوا، في أكثر من مناسبة عن تحسن العلاقات مع العديد من الدول العربية من دون تسميتها، فالسعودية وقطر والإمارات والبحرين وعمان وغيرها بدأت تتهافت لإبرام اتفاقيات تعاون اقتصادي وتنسيق أمني مع حكومات إسرائيل لمصالح ضيقة تصب في صالح الكيان الصهيوني، ضاربة عرض الحائط بحقوق الشعب الفلسطيني وإجهاض لنضاله في سبيل العودة ونيل حقوقه المشروعة، وهذا هو التطبيع بأم عينه وهو مرفوض، مرفوض، مرفوض.
وقد تم التمهيد لكل ذلك عن طريق قناة الجزيرة في قطر، التي حاولت إدخال أحوال المجتمع الإسرائيلي إلى عقل المشاهد العربي وتبسيط الأمر على أنه واقع لابد من القبول به، وتلته الإمارات في استقبال ساسة وأمنيين صهاينة، حتى وصلنا لزيارة نتنياهو لعمان واستقباله من سلطانها، أما السعودية فأصبحت تسمح بخروج أراء لكتابها يمجدون إسرائيل ويحقرون من الفلسطينيين، بل وصلت بأحدهم لأن يدعو نتنياهو لحرق الفلسطينيين، كما أصبح من الشائع مشاهدة وصول الفرق الرياضية والفعاليات الثقافية الإسرائيلية إلى دول الخليج في مظهر متكرر خلافا للرأي الشعبي المخالف لهم.
هذا ويفسر حقيقة الارتباط العضوي بين إسرائيل ودول الخليج مؤخرا، أن الأجندات الإسرائيلية والخليجية المعدة لتقسيم المنطقة واحدة، والمصالح متبادلة، حيث يرى حكام الخليج في تحالفهم مع الكيان الصهيوني ضمانة لبقائهم وتوفير الحماية المزعومة لهم مما يعتبرونه تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، فيما ترى إسرائيل فيهم الطريق الرئيسي نحو تصفية القضية الفلسطينية، وكل ذلك يتم عن طريق التنسيق والتعاون المشترك بين الجانبين فيما يخص العمل على تدمير الدول العربية واحدة تلو الأخرى، إضافة إلى محاولة العمل معا لإضعاف أي دولة تقف بجانب القضايا العربية، وتساند الدول التي تواجه المشروع الصهيوني، مخالفين بذلك قواعد العلاقات السياسية التي تدعو للتحالف مع الدول التي تتشارك معها بأكبر عدد من القواسم المشتركة، وبالتالي تكون فرص تحقيق المصالح أكبر بكثير، فالأنظمة الخليجية رأت في الكيان الإسرائيلي الحليف القوي رغم عدم توافر القواسم المشتركة اللازمة معه.
التطبيع بالنهاية لم ينفع إلا طبقة صغيرة جدا من المنتفعين من ضرب المشروع الفلسطيني الوطني والعربي، كما أن هناك نسبة من المتورطين في الأنشطة التطبيعية بفعل جهلهم أو تعرضهم للتضليل، إلا أن هناك شريحة من أصحاب الرهانات على هذه المشاريع، تحركهم رؤى لمصالح مشتركة مع الكيان الصهيوني، دون اعتبار لحقائق التاريخ ووقائع الصراع على أرض فلسطين، وهؤلاء المستسلمين والمطبعين والمنقلبين، حكومة الاحتلال توظفهم ولا تصغي لهم أو تحاورهم، بل تجندهم في مواجهة شعوبهم، وذلك لمحاولة شرعنة احتلال يتناقض مع تاريخ المنطقة وثقافتها، وشطب لحقوق الشعب الفلسطيني، وتجاوز لحق الأمة العربية والإسلامية في تحرير أرض فلسطين المحتلة.
أخيرا نقول إنه للأسف
انتقل التطبيع من السرية إلى العلانية، والعلاقات الإسرائيلية العربية السرية
عمرها عشرات السنين، وقد كانت علاقات بعضها مع الأنظمة العربية وأخرى مع قوى عربية
وحزبية، أما اليوم فإن المسار التطبيعي أصبح يتخذ مسارا علنيا، ولا سبيل إلى صد
هذا الاختراق وهذه الهزيمة إلا بالمقاومة، وإذا أردنا تحديد أي نوع من المقاومة
مطلوب، فنقول قاوم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإن لم تستطع أن تقاوم بالسلاح، فقاوم
بالمقاطعة الاقتصادية وبمواجهة التطبيع الثقافي والفني والأكاديمي وغيرها.
رابط المقال في مجلة تحت المجهر: