ماذا كشف وفضح فيروس كورونا في العالم وما
بعده
لم ينتبه العالم إلى التحذير الذي أطلقه الطبيب (لي وين ليانغ) في مستشفى
ووهان الصينية في أواخر 2019، منبها فيه إلى فيروس غير عادي، قد يحول حياة الناس
إلى جحيم، ولكن للأسف صوت الطبيب لم يتجاوز جدران المستشفى، ومات وفي حلقه غصة،
حيث كشف بعد ذلك هذا الفيروس والذي أصبح يسمى (كورونا / كوفيد 19) عورة العالم
وفضح خرافة القيم الإنسانية والتضامن والتكافل الدولي بين الشعوب والأمم، وأنها لا
تعدو أن تكون أكثر من كذبة يطلقها الكبار في الدول العظمى فيصدقها الصغار في الدول
الفقيرة والنامية، ويدفعون ثمنها بعد ذلك غاليا، كما أنه لا جدوى من التغني
بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر، فيما البشر يموتون في معظم
دول العالم من غياب الكمامة أو جهاز التنفس.
لقد شكلت جائحة كورونا امتحانا حقيقيا للعالم الذي وجد نفسه أمام مرآة
الواقع التي كشفت عيوبه ونفاقه، بحيث يقف اليوم عاجزا أمام فيروس، غير مرئي، عابر
للقارات ومخترق لجسم الإنسان، إذ لا يمكن لأي بلد، أن يدعي قدرته على مواجهة
الفيروس، وحماية شعبه منه ومنحه الطمأنينة اللازمة، فكل الأنظمة الصحية، مهما بلغت
درجة تطورها وتعقيدها، تهاوت أمام سرعة انتشار الوباء، وأبانت دول العالم في لحظة
(فارقة) عن نفاق إنساني وعن ملامح مؤقتة وكاذبة لروح التضامن التي كانت تتشدق بها،
إذ تقول الحكمة "أثناء العاصفة يتعارف البحارة".
الوباء اليوم في العالم لا يستثني أحدا، وهو يحصد الأرواح أمام دهشة الكل،
كما أن الجميع أعاد اكتشاف أن الصحة فعلا هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا
المرضى، وهم في هذه الأزمة الوبائية سواء، لأن الفيروس "ديمقراطي" في
فعلته، يدخل أكواخ الفقراء مثلما يلج قصور الأثرياء، حيث لا يعنيه اللون أو الدين
أو العرق أو الجاه أو المركز السياسي، ولا فرق بين من يصنف كقوة عظمى ومن ينتسب
لعالم تحت خط الفقر، فهاهي دول أوروبا وأمريكا التي أنجبت الثورة الصناعية وتفوقت
في التكنولوجيا وبناء مجتمعات متحضرة، تعجز كأي بلد فقير أو محدود النمو عن مواجهة
الوباء، وتفشل أنظمتها الصحية عن التكفل بالأمر.
العالم وجد نفسه بين مطرقة الفيروس وسندان الانهيار الاقتصادي، ولا خيار
إلا البحث عن حلول للأزمتين معا، وإلا فلا يمكن التنبؤ بما سيكون، حيث بات واضحا
وجليا أنه يجب تغيير نمط المجتمعات المؤسسة على الفرد دون المجموعة، كون المواطن
في الغرب يتبع الشركة التي تؤمن له قوت عياله، وما انتماؤه للدولة إلا مجرد حق في
المواطنة، بينما في الشرق، ينبع الولاء للدولة من تأمينها الشروط الضرورية للعيش
بين الجماعة والإفادة من ريع الدولة، وهناك دول تأخذ بالنظامين، لذا بدت درجة
الاحتجاج فيها أقل ضررا وأوفر أمانا، هذا وقد تعزز موقع أنظمة دول الشرق الأسيوي
بقيادة الصين وكوريا واليابان وحتى دول مثل كوبا وتركيا وروسيا، كونها أشعرت
مواطنيها وجزء من العالم، أنها تمتلك آليات الدولة المانحة وأن المجموعة أولوية
على الفرد الواحد.
العالم اليوم ليس واحدا، بل إنه متعدد بالفطرة، فالعالم الأول اعتقد أن
التكنولوجيا والقوة الاقتصادية كفيلتان بجعله الحاكم الأبدي للأرض، يعيش على
الحروب، ويستثمر في ماضيه الاستعماري، ويبني فلسفته على الخوف والتخويف، وهو الغرب
الأوروبي وأمريكا، والعالم الثاني يفتتح في كل ساعة مصنعا، ويطرق أبواب كل البلدان
عارضا منتجاته، يبيع كل شيء من الإبرة والمسمار إلى القطار والطائرة، عالم تتراجع
فيه الأيديولوجيا ويكبر فيه الاقتصاد، تقوده الصين وأخواتها، وعالم ثالث منهم
العرب والمسلمين وغيرهم، وهو لا يعرف طريقه إلى التطور والتنمية، فيلقي أحيانا اللائمة
على الاستعمار، وأحيانا على الإمبريالية والعولمة المتوحشة، يراوح في مكانه، غارقا
في أزماته المتعددة الأشكال، مستسلما لأسئلة الخوف من المستقبل، عالم يمثله ثلاثة
أرباع سكان الأرض.
فمثلا لم نسمع منذ نصف قرن تقريبا أن الصين دخلت حربا أو أنفقت أموالا في
أي نزاع مسلح، بل وجهت كل جهودها لبناء اقتصاد قوي، وإنشاء آلاف المصانع والبحث عن
أسواق لها في كل بلاد الدنيا، بينما دخلت أمريكا عشرات الحروب والنزاعات باسم
توسيع النفوذ ومحاربة الإرهاب والتبشير بالديمقراطية والحرية وقيادة العالم، وهي
اليوم عاجزة حتى عن توفير كمامات لمواطنيها الذين يموتون بالفيروس، والأمريكان
اليوم يكتشفون "معنى الموت"، الموت بالجملة، وليس بالمفرق، وذلك كما كان
في حروب كثيرة دخلوها بحسابات الربح والانتصار، وخرجوا منها بنتائج الخسارة
والانهزام، وفي أوروبا يحاولون التعالي على عدد ضحايا الفيروس، ويسعى كل واحد منهم
لإنقاذ رأسه، والخروج من المأزق بأخف الأضرار، وذلك أمام صورة مخزية لبؤس التضامن
الأوروبي الذي أخفى في جوانبه كثيرا من الأنانية وعدم المبالاة تجاه الآخر، حيث
عاد كل بلد إلى شرنقته الأولى، فسقطت المواطنة الأوروبية، واستعادت القوميات
الأصلية حيويتها.
ليس هناك علاج لهذا الفيروس متفق عليه بين الدول ومختبراتها حتى الآن، فيما
أجمع الخبراء على أن الطريقة والوسيلة الأفضل والتي لا يتم تحصيلها من المستشفيات
والصيدليات للحماية منه هي الوقاية بالحجر الصحي وغسل اليدين ووضع كمامة عند
التواصل مع الآخرين والحفاظ على مسافة مترين أمان، وقد خصصت مجلة
"نيوزويك" الأمريكية منذ أسابيع مقالا أشارت فيه إلى أن النبي محمد،
عليه الصلاة والسلام، هو أول من اقترح الحجر الصحي إذا ما انتشر الطاعون، بقوله:
"إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا
منها"، وتساءلت المجلة إن كانت قوة الصلاة فعلا قادرة على هزيمة الوباء.
يقال إن الوباء العظيم، أو ما أطلق عليه الموت الأسود، الذي أتى على ثلث
سكان أوروبا في القرن الرابع عشر دفع الإنسان إلى الاحتماء بالكنيسة، وأن وباء
القرن الثامن عشر جعل الناس يلجؤون إلى قوة الدولة، ومع (كوفيد 19) وجد الناس
ملاذهم الأخير في المشافي والمصحات، وبالتالي فإن كل وباء يحيل الإنسان على قوة
تحميه، إما رجل دين أو شرطي أو طبيب، ولعل الشيء الذي أكد أن الناس يتعلقون بأدنى
قشة عندما يجدون أنفسهم على مسافة شبر من القبر هو العودة إلى الله وكتبه
السماوية، فقد يكون ظهور جائحة كورونا، هو لعنة حلت بالبشر، لأنهم حادوا عن الطريق
القويم وخالفوا الشرائع والنواميس، وأنهم يغالبون خالقهم في خلقه، وأنها بمثابة
امتحان رباني للبشرية التي خانت وعد الله، لكن الله تعالى دائما يمهل خلقه ليتوبوا
عن الضلال الذي هم فيه ويعودون إلى رشدهم، لكن حتى نكون أكثر إنصافا، فإن مواجهة
الوباء لا يمكن أن تتم إلا بالدواء والدعاء، والحجر في البيوت، أي بفعالية
المختبرات وبقوة وصدق الإيمان.
أخيرا نقول لم يتفق العلماء والساسة في الوصول إلى أجوبة نهائية مقنعة بشأن
هذا الوباء الذي يحصد الآلاف يوميا، هل هو بفعل فاعل أو امتحان إلهي؟، وكل الأجوبة
تبقى مجرد تخمينات وافتراضات، فالوباء ترك في العالم ندوبا عميقة، لكن الأكيد أن كوكبنا
سيخرج منهكا من هذه الأزمة، منهك صحيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا، كما سيكون
عالمنا الجديد بالغ الهشاشة، حيث يجب أن يبحث العالم الجديد (بعد كورونا) عن أنظمة
أكثر مواءمة للحق في الصحة والحياة، وأن يعاد هيكلة النظام الدولي ليس على أساس
القوة، ولكن على أساس الحفاظ على وحدة دوله وانسجام شعوبه، وأن يأخذ التكافل بين
البلدان مكانا متقدما في العلاقات الدولية (التضامن الإنساني)، وربما تثور الشعوب
على الحروب والنزاعات المسلحة التي تستنزف مواردها وتفقرها، والتي لا رابح فيها
سوى تجار السلاح الذين يدير أصحابها دفات الحكم في هذا البلد أو ذاك، ونقول هذا
كله لأن التاريخ علمنا أنه بعد كل وباء يجعل العالم يحاول أن يلبس رداء مختلفا،
يأنس فيه إلى مجتمع آمن ويعود إلى جوهر العيش المشترك والتعايش الحتمي، بعيدا عن
حسابات الدين واللغة والعرق والإيديولوجيا، وذلك من خلال تعزيز مفاهيم الحوار بين
الثقافات والحضارات والأديان والحق في الاختلاف، وتعزيز مكانة القيم الروحية في
مختلف المجتمعات للتخلص من الأنانية والكراهية والخوف، وكله من أجل حماية الإنسان
وكوكبه.
عز الدين ميهوبي - أديب وكاتب جزائري ووزير ثقافة سابق