تاريخ بناء النظام القانوني في الصين وأهميته
النظام القانوني في الصين يتمتع بجذور قديمة؛ إذ يرجع تاريخ أقدم شفرة قانونية إلى عهد (أسرة هان)، وذلك حينما تمت نقاشات عديدة حول دور القانون مقارنةً بالمعايير الأخلاقية أو الاجتماعية، والتي نشأت من منازعات بين الكونفوشيوسيين والقادة القانونيين منذ أكثر من ألفي عام، ولا يزال يتردد صداها في الخطاب القانوني الصيني اليوم، وذلك على الرغم من أن القوانين والنظام القانوني قد تغير على مدى قرون عديدة من حكم الأسر للصين، إلا أن العديد من السمات العريضة وصفت القانون في الصين بالتقليدي، وذلك لأنه تم وضع التعليمات المكتوبة في المقام الأول على المسائل الجنائية، وإلى حد أقل بكثير على المسائل الإدارية، كما فرضت العقوبات على الأفعال التي تشبه فقط تلك التي يحظرها القانون، فيما كانت القوانين التي تحكم العلاقات الاقتصادية وغيرها من العلاقات المدنية متفرقة وغير ملموسة التطبيق، كما تركت النزاعات الأهلية إلى حد كبير لتسويات غير رسمية من قِبل المؤسسات الاجتماعية.
هذا وقد كان يُنظر إلى التطبيق الرسمي للقانون في الصين بما في ذلك العقوبات الجنائية، على أنه وسيلة ثانوية للحكم؛ لغرس القواعد الكونفوشيوسية التي يجب على الناس من خلالها توجيه سلوكهم، ورغم أن المسؤولين والموظفين على مختلف المستويات كانوا متخصصين في الشؤون القانونية، إلا أنه لم يكن هناك فصل رسمي للسلطات، وذلك بسبب وجود عدد قليل جدًا من المؤسسات القانونية المميزة، فجميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تقع من حيث المبدأ في يد الإمبراطور، وعلى المستوى المحلي كان القاضي مسؤولًا مختصًّا بالأمور، ومكلفًا بجميع جوانب الحكم بما في ذلك الوظائف القضائية؛ إذ لم تكن هناك مهنة قانونية، وكان يمكن لأولئك الذين عرضوا خدمات التقاضي أن يخاطروا بالعقوبة الجنائية.
وقد اعتمد دستور جمهورية الصين على هيكلية مكونة من خمس قوى، تتضمن ثلاثة فروع على النمط الغربي (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، واثنان مشتقان من التقاليد الصينية (جهاز سيطرة، يركز على سوء سلوك الحكومة. وجهاز فحص الخدمة المدنية)، كما شمل كل ذلك نظامٌ ديمقراطي رسمي للسيادة الشعبية والمراجعة الدستورية، وقائمة ليبرالية للحريات المدنية، وقد استفادت القوانين الأساسية للجمهورية بشكل كبير من النماذج الغربية، والتي تشمل التشريعات الأساسية والإجرائية للقانون الجنائي والمدني والإداري، إلا أن العديد من هذه القوانين والمؤسسات القانونية لم تكن فعالة في البر الرئيسي للصين؛ إذ فشلت الجمهورية في تعزيز السلطة، وعلقت الدستور في خضم الصراع مع الثوريين الصينيين الشيوعيين.
كما تم بعد ذلك تكييف القوانين والمؤسسات القائمة في جمهورية الصين الشعبية على النماذج السوفييتية؛ إذ تبنت الصين دستورًا في عام 1956 استنادًا إلى دستور الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، وذلك مع مبادئ حكم الحزب والسيادة الشعبية الاسمية، وهياكل حكومة الحزب الشيوعي والحكومة الرسمية (ولو بالاسم فقط)، والتي عملت على تحفيز الموجات الأولى من الإصلاح القانوني والمواقف المرتبطة بسيادة القانون الأكثر قوة، حيث بدا الكثير من المشروع القانوني لعصر الإصلاح متسقًا مع رؤية «لينينية» واسعة، وذلك من خلال ماهية القوانين والمؤسسات القانونية التي تندرج ضمن مجموعة من الوسائل المنسقة لتحقيق غايات موضوعية مثل التنمية الاقتصادية السريعة، والحكم الاستبدادي الدائم، والتي يتم احتضانها إلى الحد الذي تؤدي فيه إلى تقدم هذه الغايات، كما يشبه ميثاق 1956 بشكل عام دستور 1982، والذي ما زال ساريًا في الوقت الحالي من خلال مؤسساته القانونية الرسمية.
هذا ويعد النظام القانوني الرئيسي لجمهورية الصين الشعبية هو النظام البرلماني في تشريعه، إذ تخضع المؤسسات التنفيذية والقضائية رسميًّا للسلطة التشريعية، والدولة ذات حكومة مركزية واحدة، مع سلطات تشريعية محلية محدودة بالقوة التي تفوضها الدولة المركزية، والتي تشمل المؤسسات القانونية الرئيسية مثل المحاكم الشعبية، ونيابة الشعب، وجهاز الأمن العام، فيما تجمع النيابة بين مهام الملاحقة القضائية والإشراف على سوء التصرفات من جانب الأجهزة الحكومية الأخرى، كما تخدم مكاتب الأمن العام وظائف الشرطة والأمن الداخلي والمراقبة الاجتماعية، لكن هذه المسؤوليات الأخيرة قد خُفِّضت بشكل كبير خلال فترة الإصلاح (وتحول الدور السابق إلى وزارة أمن الدولة إلى حدٍّ كبير)، كما أن إعلان مجلس أمن قومي جديد في أواخر عام 2013 لمعالجة التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية، يعكس مخاوف طويلة الأمد حول الاستقرار الداخلي، ويثير إمكانية المزيد من إعادة الهيكلة لمعالجة هذا المجال السياسي.
كما أن لدى محاكم الشعب هيكل من أربعة مستويات، يضم المحاكم الأساسية والمحاكم الوسيطة والمحاكم العليا بالمقاطعات ومحكمة الشعب العليا، والتي لها مستويات مختلفة الولاية القضائية، بحيث تكون أولية على حالات أكثر أو أقل صعوبة أو مهمة، ويخضع كل قرار من قرارات المحكمة لمراجعة غير تحفظية (في الأساس محاكمة ثانية) من قِبل محكمة أعلى مستوى، كما وتمارس محكمة الشعب العليا سلطة بيروقراطية تشبه الوزارة على السلطة القضائية الدنيا، وهو هيكل مماثل متعدد المستويات والتسلسل الهرمي (الذي ترأسه هيئة الادعاء الشعبية العليا)، والفرع التشريعي (أي نظام الكونجرس الشعبي، إذ يتم وضع القوانين الوطنية والقواعد المحلية)، والفرع التنفيذي (الوزارات المركزية التي تقوم بوضع العديد من اللوائح والحكومات الإقليمية والمحلية التي فوضت سلطات صنع القوانين).
ولقد كانت تعهدات الصين لبناء القانون والمؤسسات القانونية منذ بداية عصر الإصلاح واسعة النطاق، حيث كانت تتطابق (القوانين الكاملة) لجمهورية الصين الشعبية من عام 1949 إلى عام 1985 في حجم واحد قليل نسبيًّا، لكن بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يعد من الممكن أن يحتوي النص الأكثر سمكًا على إنتاج حتى عام واحد خلال فترة الإصلاح، فقد سن المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني أو لجنته الدائمة مئات القوانين الكبرى وعدد أكبر من القوانين الأقل، إذ اعتمد مجلس الدولة واللجان والوزارات التابعة له، فضلًا عن المؤتمرات والحكومات المحلية، على عشرات الآلاف من اللوائح الوطنية وقواعد المستوى الأدنى، كما تم تعديلها مرارًا وتكرارًا لاستيعاب ظروف الصين المتغيرة أو لتتوافق مع المعايير الدولية، كما فتحت الصين أو أعادت فتح أكثر من 600 مدرسة قانونية، دربت فيها العديد من المحامين (الذين يبلغ عددهم الآن حوالي مائتي ألف)، والقضاة (الذين يخدمون في أكثر من عشرة آلاف محكمة)، وغيرهم الكثير ممن تلقوا التدريب القانوني في وظائف القطاعين الخاص والعام، كما جلبت فترة الإصلاح هذه استثمارات واسعة النطاق بالمثل في إعادة بناء المحاكم ومكاتب النيابة العامة وتوسيعها وتحسينها.
كما وعززت الهيئات التشريعية والهيئات التنظيمية قدراتها في مجال وضع القوانين وتفسير القانون، إذ يشمل كلًّا من المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في لجنة الشؤون التشريعية، ومجلس الدولة بمكتبه للشؤون التشريعية، هيئات متخصصة تركز على القانون والشؤون القانونية، والتي عملت على توسيع نطاق الموظفين القانونيين وتطوير مهاراتهم والانتقال إلى علماء القانون الصينيين، والذين غالبًا ما يكونون متدربين بشكل أجنبي ويعملون مستشارين، كما أصبح الجميع من شركات الأعمال والمواطنين؛ يلجأ بانتظام إلى مكاتب المحاماة (التي يبلغ عددها ما يقارب سبعة عشر ألفًا)، ومكاتب المساعدة القانونية (التي تخدم الفقراء) أو محامين مستقلين.
وقد رافقت هذه التطورات دعاية واسعة ومستمرة من وسائل الإعلام، وجهود توعوية لزيادة المعرفة الشعبية بالقانون والحقوق القانونية، وعلى الرغم من صعوبة قياس هذه التغييرات مثل «الوعي بالحقوق» (الوعي بالحقوق القانونية وتوقعات أن تكون محمية من قبل الدولة)، أو على الأقل «إدراك القواعد» (معرفة القواعد التي أصدرتها الدولة) فإنه يبدو أن هذه النسبة قد ارتفعت بشكل ملحوظ بين الجمهور الصيني.
هذا وأصبح القانون والنظام القانوني في العقود الأخيرة، يلعبان أدوارًا كبيرة ومعقدة في جمهورية الصين الشعبية، وذلك على الرغم ما توحي به الصين المعاصرة بدور ضئيل للقانون فيها، إذ إن التاريخ الحديث لها يصورها واحدةً من دول النمو الاقتصادي المطابق للسوق العالمي والمتفاعل دوليًّا، والمترافق مع السياسات الاستبدادية المرنة والقابلة للتكيف، مع غياب سيادة القانون أو حتى حكم القانون بشكل كبير.
كما أن القانون أصبح موضوعًا دائم الحضور في النقاشات السياسية في الصين، وذلك منذ ظهور (دنغ شياو بينغ) زعيمًا للصين العليا بعد وفاة (ماو تسي تونغ)، إذ تضمن الميثاق التأسيسي لعهد الإصلاح في عام 1978، وهو بيان الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة، توجيهات مفادها أنه يجب أن تكون هناك قوانين، وأنه يجب اتباع القوانين وتنفيذها بصرامة، وأنه يجب تصحيح انتهاكات القانون.
هذا وكان بعد ذلك شعار
الرئيس (جيانغ تسه مين) في سنوات حكمه هو حكم البلاد بموجب القانون، وبناء دولة
حكم اشتراكي في دولة القانون، كما أنه عندما وصل «هو جينتاو» إلى السلطة في عام
2002، وصف الدستور بأنه القانون الأساسي وغير قابل للانتهاك في البلاد، وأصرَّ على
أن يتم تنفيذه من قِبل جميع الهيئات الحكومية والخاصة، حتى إنه ذكره عددًا
قياسيًّا من المرات في تقريره السياسي لعام 2007 إلى المؤتمر الحزبي السابع عشر،
أما في عام 2011 فقد أعلن «وو بانغ قوه»، رئيس مجلس الشعب القومي آنذاك، وهو أعلى
هيئة تشريعية في الصين، أن بناء النظام القانوني الاشتراكي في الصين اكتمل بشكل أساسي،
كما جلب ارتقاء «شي جين بينغ» إلى المناصب القيادية العليا في الصين تجدد الإصرار
الرسمي على أهمية القانون، إذ إنه في عام 2012، وجه تقرير العمل السياسي الصادر عن
المؤتمر الثامن عشر للحزب، الحزب للعمل في حدود الدستور والقانون وتأييد سلطته،
كما أنه في الذكرى الثلاثين لدستور 1982، أعلن «شي جين بينغ» أنه يجب أن تؤسس
وبقوة، وفي جميع أنحاء المجتمع، سلطة الدستور والقانون، وقد تعهد هذا البرنامج
المكون من 60 نقطة، والذي أُعلن في الجلسة الكاملة الثالثة عشرة للجنة المركزية في
نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، بتعزيز ضمانات حكم القانون وتقييد السلطة في قفص من
المؤسسات والقواعد، كما أشارت القيادة أيضًا إلى اعتماد جديد على القانون للتصدي
للفساد، والذي يعد أحد أخطر التهديدات للاستقرار وحكم الحزب الشيوعي للصين.
رابط المقال في ساسة
بوست: