قصة المجاهد الشيخ
عز الدين القسام
الشيخ عز الدين
القسام هو العالم العامل، والوطني المثالي، والمجاهد الصابر الصادق الشهيد المرحوم
الشيخ عز الدين بن عبد القادر بن محمود القسام، والذي كانت أسرته من بلدة (جبلة) التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، والتي ولد فيها سنة 1880م، حيث نشأ على يد والده
عبد القادر مصطفى القسام، والذي كان من المشتغلين بالتصوف وعلوم الشريعة، وفي بيت العلم
والتقى هذا تربى عز الدين القسام، كما وقد رُبى وتعلم أيضا في زاوية الإمام الغزالي، وتلقى دراسته الإبتدائية في كُتاب يتعلم فيه أبناء القرية أصول القراءة وحفظ
القرآن.
هذا وعندما كبرعز الدين القسام أوفده والده إلى مصر، فدخل الأزهر الشريف طلبا
للعلم، حيث درس على يد فطاحل العلماء والمصلحين فيه، أمثال العالم محمد أحمد الطوخي والشيخ
محمد عبده، وهكذا استمرت دراسته في الأزهر عشر سنوات، وبعد أن تخرّج الشيخ عز الدين
القسام من الأزهر ونال الشهادة الأهلية عاد إلى سوريا عام 1906م، حيث بدأ دعوته في
سبيل الدين والوطن، كما وأخذ يدرّس العلوم الأدبية والقراءة والكتابة وحفظ القرآن
لأطفال القرية، ثم تولى خطابة الجمعة في مسجد المنصوري، فدب في القرية حماس ديني
شديد، وبنشاطه في الدعوة والتعليم ذاع صيته وانتشر اسمه، وذلك بما عرف عنه
من تفان وتضحية ونقمة وكره للمستعمرين، وهكذا التف الناس حوله ليقينهم بتقواه وصلاحه
وإخلاصه وتجرده، فوحد القلوب وشحذ الهمم وقضى على الفساد، كما ونشر الاصلاح الديني والاجتماعي، وصقل
نفوس المواطنين وأثار حميتهم، وبثّ فيهم روح الوطنية والجهاد، فأصبح موئلا ومقصدا، لأنه
كان في سيرته الشخصية مثال الفضيلة والكمال، فلا ينهى عن خلق ويأتي مثله، ولا يدعو إلى
طريق إلا ويكون أول سالك له، فكثر بذلك أتباعه ومريدوه وعظم شأنه وذاع صيته.
وفي 27 أيلول 1918م أعلن جمال باشا انسحاب الدولة العثمانية جيشا
وحكومة من سوريا، وفي مطلع تشرين الأول 1918م دخلت جيوش الحلفاء دمشق، وفي العام 1919م تألفت الفرق الثورية في سوريا بعد قيام فرنسا بتقسيم المنطقة إلى عدة أقسام، حيث كانت
هذه الفرق الثورية تعمل تحت قيادات متباينة وفي مناطق مختلفة، وهنا أخذ القسام يعطي
الدروس التحريضية تمهيدا لإعلان الثورة، كما وقاد أول مظاهرة تأييدا للليبيين في
مقاومتهم للإحتلال الإيطالي، وكون سرية من 250 متطوعا وقام بحملة لجمع التبرعات، وعندما
نادي المنادي للجهاد كان القسام أول من لبى وأجاب، فانضم إلى ثوار عمر البيطار في قرية (شير القاق) من جبال صهيون، وانتظم في عداد رجالها وتقلد السلاح جنديا في خدمة دينه
ووطنه، بحيث كان معه طائفة من مريديه وأتباعه الذين علمهم وهذبهم، فقاوم القسام أشد
مقاومة، ورفع راية المقاومة لفرنسا وحمل السلاح في وجهها، كما كان في طليعة
المجاهدين، واستمر هو واخوانه حوالي سنة في مقارعة الفرنسيين (1919م - 1920م).
كما وعندما عرف الفرنسيون ما للقسام من نفوذ ديني على المجتمع، حاول الاحتلال
الفرنسي أن يقنع الشيخ عز الدين القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته، فأرسل الاحتلال
إليه زوج خالته، والذي وعده باسم السلطة أن توليه القضاء، وأن تجزل له العطاء في حال
موافقته على الرجوع والتخلي عن جهاده، فرفض الشيخ القسام العرض، ونتيجة لإصراره هذا على
خط الجهاد، حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه
بالإعدام، وطارده الفرنسيون حتى قصد دمشق.
هذا ولم يلبث القسام في دمشق إلا قليلا، وفي العام 1920م غادرها بعد أن احتلها الفرنسيون، قاصدا فلسطين ليبدأ في تأسيس حركته الجهادية ضد البريطانيين والصهاينة، وكان في فلسطين
كعهده في سورية، فلم يبخل بماله وصحته ووقته في سبيل دينه وقوميته، حيث بعد أن قدم
الشيخ القسام إلى حيفا بدأ في الإعداد النفسي للثورة، جاعلا من دروسه في المسجد والتي
تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وسيلة لإعداد المجاهدين، وصقل نفوسهم وتهيئتها
للقتال في سبيل الله، معتمدا على اختيار الكيفية والنوعية دون الكمية، حيث كان للشيخ القسام
حلقات درس يُعلم فيها المسائل الدينية، ولكنه كان أكثر المشايخ تطرقا لضرورة الجهاد
ولمنع الصهيونية من أن تحقق أحلامها في بناء وطن قومي على أرض فلسطين، كما وكان
يركز على الاستعمار البريطاني وعلى الصهيونية، ولهذا استجوبته السلطات البريطانية
لعدة مرات، ولما كان له شعبية كبيرة كانت الحكومة تتجنب اعتقاله، وما كان من نتيجة
وطنية الشيخ ودعوته للجهاد إلا أن التف حوله جماعة من الرجال دافعهم في ذلك الوطنية
والإيمان.
وهكذا كانت مواقفه في وجه الصهيونية والإستعمار مضرب المثل، حيث ظل في حيفا
زهاء خمسة عشر عاما يروض النفوس على طاعة الله، كما كان خطيبا وإماما في جامع الإستقلال
والذي سعى إلى تشييده، بالإضافة إلى أنه كان رئيسا لجمعية الشبان المسلمين، والتي أسسها
الشيخ القسام هو وصديقه رشيد الحاج إبراهيم، رئيس فرع البنك العربي في المدينة، وذلك
في شهر أيار من عام 1928م، والتي من خلالها استطاع جمع المال والسلاح لنجدة
المجاهدين في طرابلس الغرب أثناء حملة الإيطاليين عليها.
وقد كان الشيخ القسام يزور القرى المجاورة والمدن ويدعو فيها للجهاد، ومن
خلال ذلك كان يختار القسام العناصر الطليعية للانضمام لتنظيمه (عصبة القسام السرية)، والتي بدأت تنسج خيوطها الأساسية في عام 1925م، ولكن العصبة لم تبدأ عملها الجهادي
إلا بعد العام 1929م، وقد كان الأسلوب الذي اتبعة القسام في تنظيم الأفراد يعتمد
على مراقبته المصلين وهو يخطب على المنبر، ثم يدعو بعد الصلاة من يتوسم به الخير
لزيارته، وتتكرر الزيارات حتى يقنعه بالعمل لإنقاذ فلسطين، وذلك ضمن مجموعات سرية لا
تزيد عن خمسة أفراد، ثم اتسعت المجموعات لتضم 9 أفراد، ويدفع كل عضو مبلغا لا يقل
عن عشرة قروش شهريا، بحيث كان يشرف على الحلقة الواحدة نقيب يتولى القيادة
والتوجيه.
هذا وقد استشعر الشيخ القسام مبكرا خطر الحركة الصهيونية، كما ورأى بفكره
الثاقب ضرورة ضرب قاعدة هذا الخطر ممثلة بالاستعمار البريطاني، وذلك في وقت كانت
الزعامات والأحزاب الفلسطينية تسعى لمفاوضة بريطانيا وتتجنب مواجهتها، فطلب عز
الدين القسام العون ممن حوله، وقام بالاتصال بكل الملوك والأُمراء والزعامات
العربية في ذلك الوقت، حيث اتصل بالملك فيصل
في سورية طلبا لمؤازرته في ثورته، فوعده ولكن لم يثمر وعده عن شيء، فاتصل بالحاج أمين
الحسيني، مفتي فلسطين الأكبر، وطلب منه أن يهيء الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن
تحل قضية فلسطين بالطرق السلمية وعن طريق المفاوضات، فما أجابه ولبى نداءه بالدعم والعون إلا الأمير الشيخ راشد الخزاعي الفريحات، شيخ عجلون، حيث نهض الأمير الشيخ راشد الخزاعي ليمد القسام ورجاله بالمال والسلاح
والمأمن، فكان الأمير الوحيد من العرب الذي لبي نداء الثورة حين أطلقها عز الدين
القسام، حيث وقف إلى جانب الشيخ عز الدين القسام في جميع مراحل ثورته، حتى أن القسام
قد لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار تحت حماية الأمير راشد بن خزاعي
الفريحات، والذي قدم إمدادا مباشرا وقويا للشيخ القسام بالمال والسلاح، فضلا عن
توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى.
وفي آخر مرة وقف فيها الشيخ عز الدين القسام خطيبا في جامع الإستقلال
في حيفا، قال وفسر لجمع من المصلين الآية الكريمة: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (التوبة 13-14)، وكان في صوته حماسة، وفي نبراته رنين ألم، وفي عينيه بريق من بأس وقوة، حيث قال أيها الناس: لقد علمتكم أمور دينكم، حتى صار
كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون.
وما أن أنهى خطابه حتى كان الحاضرون قد أجهشوا بالبكاء، وأقبلوا على
يديه يقبلونهما، وعاهدوه على القتال في سبيل الله، وبعد ساعة من إلقاء الخطبة أخذت
السلطات تفتش عن الشيخ القسام للقبض عليه ومحاكمته، ولكنه كان قد ودّع أهله وعشيرته، وحمل
بندقيته وذهب وصحبه إلى الجبال ليجاهدوا وليستشهدوا، ويذكر أن سيارة كانت تنتظره
خارج المسجد، ولم يشاهد مرة أخرى بحيفا بعد ركوبه فيها.
وهكذا غادر الشيخ القسام حيفا متجها إلى (يعبد) مع مجموعة من المجاهدين
الذين تخرجوا من مدرسته، وبايعوه على الموت والشهادة في سبيل الله، حيث رابط في
أحراش (كفرزان وبركين)، ثم انتقل إلى (جبال البارد وكفر قوت)، ومنها إلى (أحراش يعبد) قرب
جنين، وقد كان يتعقبهم في أثناء ذلك مجموعة من العملاء البريطانيين، والذين عرفوا
مكان استقرار الشيخ ورفاقه، فحاصرهم البوليس الإنجليزي يوم م20/11/1935، والذي كان يقدر
عدد أفراده بـ 150 فردا من الشرطة العرب والإنجليز، معها الطائرات والمدافع، كما وحلّق
القائد البريطاني فوق موقع الشيخ ورفاقه في (أحراش يعبد) في طائرته.
وعندها عرف القسام أن البوليس قادم لا محالة، هنا أعطى الشيخ لاتباعه
أمرين: 1-عدم الخيانة حتى لا يكون دم الخائن مباحا،2-عدم إطلاق النار بأي شكل من
الأشكال على أفراد الشرطة العرب، بل إطلاق النار بإتجاه الإنجليز، حيث كان الضباط
الإنجليز قد وضعوا البوليس العربي في ثلاثة مواقع أمامية، ولم يكن هؤلاء يعلمون
بحقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها.
وهكذا اتخذت المعركة بين الطرفين شكل عراك متنقل، والتي استمرت حتى
الساعة العاشرة صباحا، حيث ساعدت كثافة الأشجار على تنقل أفراد الجماعة من موقع إلى
آخر، وقد كان الشيخ من الفعالين في القتال وذلك باستخدامه لبندقية ومسدس بالتناوب، حيث
خاض المعركة بإيمان وبطولة نادرة، وأبلى بلاء عظيما واستمات ورجاله في المقاومة، وفي
أثناء المعركة نادى أحد أفراد الشرطة العربية الثائرين طالبا منهم الإستسلام، فرّد
عليه القسام صائحا (لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله والوطن، يا رفاقي موتوا شهداء)، حتى
خرّ شهيدا في ساحة المجد والشرف في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1935م، حيث كان يردد
إذ ذاك، وقد استشهد إلى جانبه الشيخ السيد الحنفي المصري وهو من مصر، والشيخ يوسف
الزبادي من بلدة الديب، وبعد انتهاء المعركة تعمد قائد البوليس الإنجليزي إهانة جثة
الشهيد القسام، ويقال أنه داس على رقبته، كما وأسر في هذه المعركة أربعة مجاهدين هم: (الشيخ حسن الباير من بوركين، والشيخ عرابي من قبلان قضاء نابلس، والشيخ أحمد الخطيب
من طولكرم ومحمد يوسف من نابلس)، والذين حكموا بالإعدام، ثم أنزل الحكم إلى السجن المؤبد، حيث
قضوا فيه أحد عشرة سنة.
ولا نغالي بالقول بأن الشهيد القسام ضرب أروع صفحة في التضحية، فهو أول
مجاهد رفع السلاح في وجه الإستعمار والصهيونية في فلسطين، كما ولم يترك في فلسطين
بلدة أو قرية إلا بثّ فيها روح الجهاد والدين، كما بثّ رجاله في أقطار مختلفة من
العالم لجمع المال والسلاح والأنصار، وقد أطلق عليه لقب أمير المجاهدين الفلسطينيين
دون منازع، كما وأطلق اسمه على مدرسة وشارع في مدينة (جبلة) مسقط رأسه، وكان لمنعاه
أعظم الأسى في القلوب لمكانته الدينية البارزة ومواهبه الفذة.