قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

علي عزت بيجوفيتش.. الحياة والكفاح السياسي

علي عزت بيجوفيتش.. الحياة والكفاح السياسي

حياته


ولد الدكتور علي عزت بيجوفيتش في (بوساناكرويا) البوسنية بشمال جمهورية يوغوسلافيا السابقة سنة ١٩٢٥م، لأسرة بوسنية عريقة في الإسلام، وتعود أصول عائلته المسلمة إلى بلغراد والتي هجرت أسرته منها عام 1868م، واسم عائلته يمتد إلى أيام الوجود التركي بالبوسنة، فالمقطع (بيج) في اسم عائلته هو النطق المحلي للقب (بيك) العثماني، ولقبه (علي عزت بيجوفيتش) يعني (علي بن عزت بيك)، وقد سمي (علي) على اسم جده، أما جدته فاسمها (صدّيقة) وهي تركية، وقد كان والده يعرف بعض التركية ويتحدثها مع والدته.


هذا ولقد قدم (والد علي) بولده إلى سراييفو وعمره عامان ليكونوا قريبين من أسرة والدته، حيث نشأ في أسرة كبيرة مكونة من سبعة إخوة وأخوات، وأكمل تعليمه في مدرسة ثانوية تتبنى منهجا أكاديميا على غرار المناهج الألمانية، والذي يتميز بالدقة والصرامة، وتخرج منها عام 1943م، وفي هذا الوقت كان والده يعمل في التجارة، ولكن نتيجة جرح أصيب به في الحرب العالمية الأولى على الجبهة الإيطالية، فقد أصبح بسببه مشلولا في السنوات العشر الأخيرة من عمره، ولهذا اضطر (علي) أن يتحمل المسؤولية مبكرا ويعمل ويساعد إخوانه وأخواته بعد إصابة والده، وهكذا كانت حياته فيها قدرا كبيرا من الحرية من السلطة الأبوية، فيما كانت أمه ملتزمة دينيا وحريصة على تعليم والتزام أولادها (علي) بالشعائر الدينية (الصلاة)، حيث كانت توقظ (علي) دائما لصلاة الفجر ليصليها في المسجد، والذي كان لإمامه العجوز تأثيرا كبيرا عليه في مسلكه الديني في الحياة بعد ذلك.


ولقد نشأ علي عزت بيجوفيتش في وقت كانت فيه البوسنة والهرسك جزءا من مملكة تحكمها أسرة ليبرالية، ولم يكن التعليم الديني جزءا من المناهج الدراسية، إلا أن (علي) وهو لا يزال شابا كان يعي أهمية أن يتعرف على دينه ويقرأ فيه قراءة مستفيضة، بحيث اتفق هو وبعض زملائه في المدرسة على أن ينشئوا ناديا مدرسيا للمناقشات الدينية سموه (ملادي مسلماني) أي (الشبان المسلمين)، والذي تطور فيما بعد بحيث لم يقتصر  نشاطه على الاجتماعات والنقاشات الدينية وإنما امتد إلى الأعمال الاجتماعية والدعوية والخيرية، وقد كانت عضوية النادي تجتذب طلابا من المدارس الثانوية ومن جامعة سراييفو، كما وأنشأ بها قسما خاصا بالفتيات المسلمات، وقد استطاعت هذه الجمعية أثناء الحرب العالمية الثانية أن تقدم خدمات فعالة في مجال إيواء اللاجئين ورعاية الأيتام والتخفيف من ويلات الحرب، إلى جانب تقديمها برامج لبناء وتطوير الشخصية الذاتية لمنتسبيها، ولقد تطورت اتجاهات هذا النادي (الشبان المسلمين) نحو التكامل والنضوج، وذلك نتيجة السعي المستمر من القائمين عليه لتحسين أنفسهم والاستفادة في عملهم بالمعارف الجديدة التي توصلوا إليها عن طريق تحليل الواقع والاجتهاد الخاص للمنتسبين إليه، هذا كله كان إلى جانب تأثرها بأفكار ومنهجيات (إسلامية) أخرى جاء بها بعض الطلاب البوسنويين الذين تعلموا في جامعة الأزهر بالقاهرة.


وقد كان للجمعية (الشبان المسلمين) اتجاهات واضحة وثورية، حيث ورد في مقال لها نشر سنة 1942م بأن الإسلام ليس دينا فقط وإنما هو أيديولوجية عالمية يتضمن شؤونا اجتماعية وأمورا تتعلق ببناء الدولة وسياستها، وقد نشر هذا المقال في مجلة (جمعية العلماء) التي كانت تحمل عنوان (الهداية)، كما واتضح حيوية هذه الجماعة في اتجاهها نحو تعميق فكرها ورغبة أعضائها في الانفتاح على الفكر العالمي، حيث كانت لهم خطط منظمة لتعلم اللغات الأوروبية، كما وكان من عادتهم أن يجتمعوا ليقرؤوا معا ما يجري على الساحة في الأوضاع السياسية بالعالم الإسلامي، وقد اشتملت قراءاتهم الأساسية على مؤلفات (محمد أسد) في الإسلام باللغة الألمانية وذلك ضمن قراءات أخرى كثيرة، ومن خلال كتابات (محمد أسد) عرفوا كثيرا عن الحركة الإسلامية في باكستان، والتي كانت تحمل في طياتها أملا كبيرا لهم في وقت من الأوقات، وقد أشار إليها علي عزت في كتاباته وتعرض لبعض جوانبها السلبية بالنقد في كتابه (البيان الإسلامي).


أما في الجامعة فقد التحق علي عزت بيجوفيتش بكلية القانون في (جامعة سراييفو) وبدأ دراسة المحاماة، ثم غير تخصصه بعد حكم الشيوعيين إلى (علم التربة)، حيث كان قد نصحه والده ألا يدرس المحاماة بسبب حكم الشيوعيين، وأنه لا مستقبل للمحاماة تحت حكمهم، إلا أنه عاد مرة أخرى لدراسة القانون وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950م، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1962 وعلى شهادة عليا في الإقتصاد عام 1964م، وقد عمل بعدها لمدة 25 سنة مستشارا قانونيا لجهات علمية وتجارية مختلفة وفي مقدمتها جامعة سراييفو، ثم اعتزل وتفرغ للبحث والكتابة، وهو يتحدث اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية إلى جانب اللغة اليوغسلافية مع إلمام جيد بالعربية.


هذا ويلاحظ من خلال مسيرة علي عزت بيجوفيتش أنه كان حريصا على أن يتصل بالفكر الغربي من منابعه وبلغته الأصلية، ويظهر هذا واضحا في ثقافته الواسعة التي انعكست في كتاباته، وذلك من خلال العدد الهائل من المراجع التي اتصل بها خلال بحثه لمواضيع كتبه، والتي اشتملت على موضوعات متنوعة في الفلسفة والأخلاق والقانون والفنون والعلوم الطبيعية وعلم النفس وعلم الاجتماع والأدب والشعر والتاريخ والأديان.


الكفاح السياسي


احتلت النازية الألمانية بقيادة (هتلر) مملكة يوغوسلافيا في أبريل 1941م، وأحالتها إلى جمهورية فاشية، وهنا سارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي آنذاك إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي، والذي من خلاله حاول الشبان النازيون التأثير في الطلاب المسلمين، لكن علي عزت وزملاؤه في جمعية (الشبان المسلمين) تصدوا لهم وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معاد للإسلام، وأن الحركة النازية ضد المسلمين، وأنه يحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة، وهكذا استطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير في الطلبة وإقناعهم بصواب منهجهم (الإسلام)، كما وقاطعت جمعية (الشبان المسلمين) النظام الفاشي الحاكم في البلاد، وهو الأمر الذي ضايق النظام وجعل النازيين الألمان يستاؤوا من الجمعية ويحاربوها، ولم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر وإعطائها الشرعية القانونية.


لكن بعدما تحررت يوغسلافيا ورحلت عنها الجيوش الألمانية، تم اتخاذ الشيوعية مذهبا ودينا جديدا للبلاد، وذلك أواخر عام 1945 وتحت زعامة قائدها القوي (تيتو)، وقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين، حيث أغلقوا المساجد ومدارس المسلمين وحولوها إلى ملاه ومتاحف وبارات وحانات ومراقص، كما ومنعوا اقتناء المصاحف وفعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين وبالمتدينين عموما، قتلا وسجنا وتعذيبا ومطاردة، إلا أن علي عزت وأصحابه تصدوا للشيوعية كما كانوا يتصدوا للنازية من قبل، ولأنه كان معارضا شرسا وبارزا لهم، فقد اعتقله الشيوعيون مرارا وتكرارا وهو طالب في الجامعة، حيث كان كثيرا ما يتهم من قبل أطراف صربية وكرواتية بأنه من داعمي الأصولية الإسلامية، وقد حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة عام 1949م، وكانت تهمته الرئيسية أن له علاقة سياسية بجمعية (الشبان المسلمين)، وذلك مع أن هذه الجمعية ما كانت تتعاطى مع العمل السياسي، وكانت اهتماماتها مقتصرة على تعليم العلوم الشرعية وعلى الأعمال الدعوية والخيرية.


هذا وفي سنة 1982م كان علي عزت أيضا أول المتهمين في محاكمة سراييفو المشهورة، حيث حكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة مع 11 شابا من زملائه بتهمة الانحراف نحو الأصولية (معارضته للماركسية)، ولكن أطلق سراحه حينما تفكك الاتحاد السوفياتي، وذلك بعد أن أمضى خمس سنوات في السجن، وأخيرا يذكر هنا أنه عندما زار عبد الناصر تيتو وسأله عن علي عزت، أجابه تيتو بأنه رجل خطير وأخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وأنه يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه.


هكذا وبعد تصدع الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفياتي عام 1990م، وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطح جليا، وذلك بعد عشرات السنين من الظلم والقمع والاستبداد، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية، وهنا اقتنص الدكتور علي عزت هذه الفرصة وبادر إلى تأسيس حزب (العمل الديمقراطي)، وشارك في الانتخابات الرئاسية وفاز فيها، وصار رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك في نوفمبر 1990م.


ولقد أجرى الرئيس علي عزت بيجوفيتش بعد حكمه استفتاءا شعبيا على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي، وذلك كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا قبل ذلك، حيث صوّت الشعب المسلم في البوسنة والهرسك على الاستقلال بأكثرية 63%، ولكن الغرب لم يرضى بهذه النتيجة وشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة، وهو الأمر الذي شجع الصرب والكروات الهمج على بدأ حرب عرقية دينية دموية وحرب إبادة شاملة على البوسنة وشعبها، وهكذا وقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة، فالصرب وعصاباتهم الإرهابية من جهة والكروات من جهة ثانية، والذين استطاعوا معا تمزيقها وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن، وخصوصا بآلة الحرب اليوغسلافية الرهيبة التي كانت خاصة في أيدي الصرب المتوحشين، حيث كانوا يفتكون بالمسلمين ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تكتشف كل مقابرها الجماعية حتى الآن، كما أنهم اغتصبوا حوالي مئة ألف امرأة وفتاة مسلمة، إضافة إلى مئات المنازل التي هدموها على رؤوس أصحابها، والمساجد التي دمروها والجرائم الكثيرة الأخرى التي لا تخطر على بال، وقد جرى هذا كله على مرأى ومسمع من الأوروبيين والأمريكان (العالم)، وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي كانت قد اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك وأصبحت عضوا فيها.


وهنا ورغم كل ما كان يجري فإن الرئيس الداهية علي عزت بيجوفيتش، صاحب العين البصيرة والفكر العميق والنظرة البعيدة، كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنب شعبه ما يمكن من الخسائر، حيث كان يتحرك هنا وهناك ويعرض مقترحاته وأفكاره، ويضطر للتكيف أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأوا الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفته القتالية ترجح على الصرب والكروات، ومن أجل إنقاذ شعبه، تقدم الرئيس علي عزت بحل وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شباط 1991م يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة)، وكان هذا المشروع كفيلا بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق، لذلك حظي هذا المشروع بدعم الجماعة الأوروبية والدولية على الرغم من أن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع.


وهكذا تولى الدكتور علي عزت بيجوفيتش رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب لمدة عشر سنوات، (رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك من 19 نوفمبر 1990م إلى عام 1996م، ومن ثم أصبح عضوا في مجلس الرئاسة البوسني من 1996م إلى 2000م)، ثم تخلى عن ذلك المنصب في سنة 2000م، وقد كان طيلة حياته بسيطا وعفيفا لا يحب السلطة أو الوجاهة، بحيث عاش حتى وفاته في شقة متواضعة في أحد منازل سراييفو، وقد لقي ربه يوم الأحد 19/10/2003م عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، وذلك بعد سقوطه في البيت وتعرضه لبضعة كسور، وقد كان قبلها قد تعرض لعدة أزمات قلبية، وعندما أعلن راديو البوسنة وفاته لم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، حيث اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية، لأن الصرب كانوا يعدون الرئيس علي عزت عدوهم اللدود، وهو الذي وقف بدهاء وجرأة وذكاء في وجه أطماعهم من ابتلاع البوسنة والهرسك، ومن أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها، ورغم ذلك خرج في تشييعه أكثر من مئة ألف مسلم، غطوا شوارع سراييفو في عز البرد والمطر، مودعين زعيمهم وقائدهم المجاهد الذي ارتبطت به قلوبهم لأكثر من نصف قرن.


وأخيرا نقول لم يكن الدكتور علي عزت بيجوفيتش رئيسا عاديا كسائر رؤوساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان سياسيا داهية ومناضلا عنيدا، ومفكرا عميقا وذا نظرة إسلامية بعيدة، جعلته يتجاوز حدود البلقان إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين، وذلك بعد تخليصهم من أوضاع التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart