أصول فقه الموازنات بين الأعمال الشرعية
تعتبر دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين
لدين الله سبحانه وتعالى، انعكاسا فعليا لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على
مشاعره وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، كما إن الذي يبحث في سنة النبي عليه
الصلاة والسلام، يجد أمثلة تفوق الحصر لفقه الموازنات لا يتسع لها بحث واحد.
الموازنة بين الأعمال الشرعية
وردت عدة أحاديث تبين أفضل الأعمال في الإسلام أو أحبها عند الله تعالى، بحيث
سئل النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ومن أشخاص متعددين عن خير الأعمال
وأفضلها، فتعددت أجوبته عليه الصلاة والسلام، وهذه الأحاديث هي:
- فعن أبي موسى رضي
الله عنه، قال: قالوا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من
لسانه ويده.
- فعن عبد الله بن عمرو
بن العاص رضى الله عنهما، أن رجلا سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم
الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف.
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان
بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج
مبرور.
- فعن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟
قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد
في سبيل الله، قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني .
- فعن أبي أمامة الباهلي
رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك، ينفعني الله به، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له، وفي رواية: لا عدل له.
وهكذا نرى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أجاب
أجوبة مختلفة لأشخاص مختلفين عن سؤال واحد، وهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله
تعالى، وقد ناقش الأئمة هذه القضية وأبدوا آراءهم وتحليلاتهم لها، فالإمام النووي
رحمه الله ذكر في التوفيق بين هذه الأحاديث، أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب
اختلاف الأحوال والأشخاص، فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا، ولا يراد أنه خير
الأشياء من جميع الوجوه، في جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال أو نحو ذلك.
وذكر ابن حجر رحمه الله، أن الجواب اختلف باختلاف أحوال السائلين، وذلك بأن
أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان
الاختلاف باختلاف الأوقات، وذلك بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره،
فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها،
والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي
وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل.
هذا ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في ذلك، إن أفضل العبادة، العمل على
مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت، فأفضل العبادات في وقت الجهاد،
الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، والأفضل في وقت حضور
الضيف، القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، والأفضل في أوقات السحر،
الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في أوقات ضرورة
المحتاج إلى المساعدة، الاشتغال بمساعدته، فالأفضل في كل وقت وحال، إيثار مرضاة
الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت.
ويبين العز بن عبد السلام رحمه الله، أن الاختلاف كان بسبب اختلاف السائلين،
وذلك كأن السائل قال: أي الأعمال أفضل لي؟ فقال: برّ الوالدين لمن له والدان يشتغل
ببرهما، وقال لمن يقدر على الجهاد لما سأله عن أفضل الأعمال إليه: الجهاد في سبيل
الله، وقال لمن يعجز عن الحج والجهاد: الصلاة لأول وقتها، ويجب التنزيل على مثل
هذا، لئلا يتناقض الكلام في التفضيل.
الموازنة بين
الأعمال الشرعية المتساوية في الماهية
الأعمال قد
تتساوى من حيث الماهية، ولكنها تتفاضل أحيانا لاعتبارات مختلفة ومن هذه الاعتبارات.
1- المفاضلة بين
الأعمال بحسب مكان أدائها
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
الحرام.
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه،
خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم
يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل
المسجد، كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي
يصلي فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه.
2- المفاضلة بين
الأعمال بحسب زمان أدائها
- فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام،
يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا
الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء.
3- المفاضلة بين
الأعمال بحسب أحوال المكلف
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق
وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان
كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
4- المفاضلة بين
الأعمال بحسب الانقطاع أو المداومة عليها
- فعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله
عليه وسلم، كان يحتجر حصيرا بالليل، فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، فجعل
الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلون بصلاته حتى كثروا، فأقبل فقال:
يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب
الأعمال إلى الله ما دام وإن قل.
5- المفاضلة بين
الأعمال بحسب الفرضية أو الندب
- فعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: من عادى لي
وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما
يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه،
ولئن استعاذني لأعيذنه.
الموازنة بين
الأعمال الشرعية من حيث أولوية الدعوة إليها
يجب على الدعاة
إلى الله الإحاطة بمراتب الأعمال الشرعية قبل دعوتهم إلى الله تعالى، فالأعمال
الشرعية كما رأينا متفاوتة، والنبراس الذي يحدد للدعاة أولوياتهم في الدعوة، هو
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن،
حيث قال صلى الله عليه وسلم: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم
إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله (وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)، وأن محمدا
رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل
يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق
دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الموازنة بين الأعمال
الشرعية في التعامل مع
الناس
1- الموازنة بين
الناس من حيث أولوية البر والصلة
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟
قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك.
هذا الحديث فيه دليل على أن محبة الأم والشفقة
عليها، ينبغي أن يكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لأنه صلى الله عليه وسلم كرر ذكر
الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا المعنى شهد له
العيان، وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها
الأم، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
وهنا يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أولى الناس ببر الإنسان وصلته هي
الأم، ثم يأتي بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، وهذا هو السلم الصحيح في التعامل مع
الناس، فعلى المسلم أن يراعي سلم الأولويات، فيقدم ما حقه التقديم في الصلة ويؤخر
ما حقه التأخير.
2- الموازنة بين
الناس من حيث أحوالهم
- فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء شاب فقال: يا رسول الله! أقبل وأنا
صائم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فجاء شيخ فقال: أأقبل وأنا صائم؟ فقال:
نعم، قال الراوي: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت
لم نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه.
فالرسول صلى الله عليه
وسلم أذن للشيخ بالتقبيل حال الصيام، ولم
يأذن للشاب، مراعاة لحال كل منهما، واختلاف قدرة كل منهما في السيطرة على الشهوة، ففي
إجابة الرسول لكلا الرجلين، نرى كيف وازن الرسول بين حاليهما، فسمح للشيخ الذي
يملك نفسه ويسيطر على شهوته بتقبيل زوجته أثناء الصيام، ومنع الشاب الذي تغلبه
شهوته، فسد بذلك الذريعة إلى إفساد الصوم الواجب، لذلك منع الشاب من تحقيق بعض
شهوته التي يمكن إشباعها في وقت لاحق، درءا لما يمكن أن يترتب على ذلك من فساد
الصوم، وذلك تقديما لمصلحة الحفاظ على الصوم التي يترتب على فسادها خطر كبير، على
المصلحة الخاصة بإشباع الشهوة حالا مع إمكان تحقيقها بعد إتمام الصوم.
3- الموازنة بين
الناس من حيث أولوية التأليف
- فعن عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا،
فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل،
والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع
والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير.
وفي هذه الرواية نجد النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قلوب بعض الناس ببعض المال ليثَبِت بذلك إيمانهم، ويدع آخرين يعمر الإيمان قلوبهم من غير عطاء، ويبين عليه الصلاة والسلام الحكمة من ذلك أنه يعطي الرجل ليتألف قلبه بلعاعة الدنيا خشية عليه من أن يترك هذا الدين لما في قلبه من الجزع والهلع، فيكب على وجهه في النار، ويترك الذين رسخ الإيمان في قلوبهم من غير عطاء فإيمانهم العميق كفيل بثباتهم على الحق.