قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

ضوابط فقه الموازنات - 3 -

 ضوابط فقه الموازنات - 3 -

- مراعاة أحوال الأشخاص - اعتبار الزمان والمكان والظروف الطارئة (مراعاة فقه الواقع) -

 

ينبغي لفقيه الموازنات أن يحيط علما بمقاصد الشريعة، ويعلم أنواع المصالح والمفاسد، وأن يكون متبحرا بعلوم الكتاب والسنة، ويلم بأحوال الناس الذين تتعلق بهم الموازنة ومعرفة زمانهم ومكانهم، وأن يكون له باع طويل في فقه الواقع ومعرفة حاجاته، وصاحب تجارب كثيرة وخبرات متعددة، إضافة إلى الانفتاح على عدد من العلوم المتنوعة، كعلم الإدارة والتنمية المجتمعية، وعلم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وعلم الإعلام والاتصال الجماهيري وغيره، وذلك ليكتسب سعة الإدراك والتفكير، وأولا وأخيرا وفوق كل ما سبق ذكره، كمال التجرد لله عز وجل.


ولهذا فإن أهم الضوابط الشرعية التي اتفق عليها العلماء والفقهاء، والتي يجب أن يلتزم بها الفقيه لكي يصيب فقه الموازنات المطلوب، ويوافق الحق المؤمول هي:


- مراعاة أحوال الأشخاص


وذلك لاختلاف أحوال المكلفين، فالمرأة ليست كالرجل، والفقير ليس كالغني، والمقيم ليس كالمسافر، والصحيح ليس كالسقيم، والشاب القوي ليس كالشيخ الضعيف، والعالم ليس كالجاهل، وكذلك لابد من مراعاة اختلاف البيئات أيضا، وكذلك مراعاة اختلاف حال الشخص نفسه من ظرف إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن أمثلة ذلك سماح النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ بالقبلة وهو صائم ونهيه للشاب، وكذلك تعدد إجاباته لمن سأله عن أفضل الأعمال، فرسول الله صلى عليه وسلم كان ينظر إلى نوعية الأشخاص الذين أتوه وأحوالهم، فقد أتاه الحاضر والبادي، الغني والفقير، قوي الإيمان وضعيفه، الكبير والصغير، الصحيح والمريض، الرجل والمرأة، قوي الجسد وضعيفه، العربي والأعجمي، وافر العقل وناقصه، الأحرار والموالي، وكل واحد يصف له النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلح به حاله، وتكمل به نفسه، ولهذا على فقيه الموازنات أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويكون لديه ميزان دقيق للأشخاص وأحوالهم .


- اعتبار الزمان والمكان والظروف الطارئة (مراعاة فقه الواقع)


إن فقه الموازنات في الحقيقة مبني على فقه الواقع ودراسته دراسة علمية مبنية على ما يسره لنا عصرنا من معلومات وإمكانات، ففقيه الموازنات ينبغي أن يكون ملما بالوقائع المستجدة (النوازل) ليعطيها حكمها، وليقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، كما أن فقيه الموازنات بحاجة إلى العلم بأحوال الناس الذين تتعلق بهم الموازنة ومعرفة زمانهم ومكانهم وعاداتهم وأعرافهم، وهو عين فقه الواقع.


فمصالح أهل زمان ما قد تكون في حق غيرهم مفاسد، ومفاسد أهل زمان ما قد تكون في حق غيرهم مصالح، بل ما كان في زمان ما مصالح مرجوحة، قد تكون في زمان غيره مصالح راجحة، وما كان في هذا المكان راجحا قد يكون في مكان آخر مرجوحا، لذلك ينبغي مراعاة اعتبار الزمان والمكان في الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومراعاة اختلاف البيئات.


وقد بين ابن قيم الجوزية رحمه الله أهمية العلم بالواقع للمفتي والحاكم فقال: (معرفة الناس، فهذا أصل عظيم، يحتاج إليه المفتي والحاكم، وإلا كان يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر، له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه... بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه، وبالله التوفيق).


هذا ويذكر ابن قيم الجوزية في موضعٍ آخر ضرورة الفقه بالواقع للمفتي والحاكم إذ لا يتمكنان من الوصول للحق في الفتوى أو الحكم إلا بنوعين من الفهم: الأول: (فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأَمارات والعلامات التي يحيط به علما). والنوع الثاني: (فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله).


ومن العلم بالواقع، العلم بأعراف الناس، واختلافها باختلاف البيئات والبلدان، فعلى فقيه الموازنات ألا يجمد على ما ذكر في كتب السابقين، ويسوقها سوقا ليسقطها على واقع جديدٍ، بل عليه مراعاة اختلاف الزمان والأعراف، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: (وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العرف شيء فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول العمر، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، فلا تجره على عرف بلدك والمذكور في كتبك، وسله عن عرف بلده، فأجره عليه وأفته به، ...، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين... وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل).


ويبين ابن تيمية أهمية ضرورة الاطلاع على الواقع لتكون الموازنة صحيحة قائلا: (والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في كتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو غيره، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك، كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح).


ومن الأمور المتعلقة بفقه الواقع، فقه الضرورة، الذي يعد معلما مهما، ومؤثرا من المؤثرات الواقعية في فقه الموازنات، وهو جزء مهم من فهم فقيه الموازنات للواقع الفهم المتعمق، فعلى الفقيه أن يستوعب مقدار المشقة التي تلحق بالناس والضيق والحرج والضرر الذي سيترتب عليهم عند تطبيق بعض الأحكام الشرعية عليهم، تحريما أو منعا، أو وجوبا أو إلزاما، نظرا لظروفهم الخاصة.


هكذا ومن خلال هذا الفهم الدقيق، ووفقا لضوابط شرعية، يستطيع الفقيه أو المفتي أن يصل إلى الموازنة الصحيحة في التعرف على المنهج القويم والأسلوب المناسب، والوسيلة الملائمة لتطبيق هذه الأحكام الشرعية في مثل هذه الظروف، وفقا لمراد الشارع بحسب اجتهاده وظنه.


كما أن المجتهد والمفتي يحتاجان لفقه الموازنات عند تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وفي ذلك يقول ابن القيم تحت العنوان نفسه: (إن هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به)، فمن أسباب تغيير الفتوى انقلاب موازين الرجحان بين المصالح والمفاسد، فينبغي للمجتهد والمفتي، ألا يكرر فتاوى السابقين دون النظر إلى واقعه الذي يعيشه، بل ينظر إلى الواقع موازنا بين المصالح والمفاسد، ليصيب بفتواه فقه الواقع وسننه وفق ما أراد الشارع وقصد.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart