مصير الخاذل سيكون أسوأ من مصير المخذول
العالم اليوم حدد أن الشيء الأخلاقي
الوحيد الذي يمكن للمدنيين الفلسطينيين أن يفعلوه هو الموت بهدوء، كما أن الشيء
الأخلاقي الوحيد الذي يمكن للعالم فعله لهم هو مشاهدتهم يموتون بصمت، وهكذا أصبح
ليس أمام الفلسطيني أية اختيارات أخرى تركها العالم أمامه، سوى أن يموت بكرامة
(شهيد أو استشهادي)، وذلك بعدما سحقوه وأذلوه وامتهنوه بكل صورة في الداخل وفي
الخارج، لكن أهل فلسطين عامة وأهل غزة خاصة، فيهم ذلك الصمود والصبر العجيب على
فقدان أحبائهم وأبنائهم وسحق أحلامهم، والذي تجاوز حدود الطاقة البشرية العادية،
حيث تحملوا قسوة مفرطة وتدمير شامل، وكل ذلك لم يفرق كلمتهم أو يمزق صفوفهم، كما
ولم يجعلهم يغادروا أرضهم أو يتركوا ديارهم المهدمة.
لكنها أيام الله والعصر البطولي لم
ينتهي، وقصة الفلسطيني هي قصة اجتمع فيها الدين والتاريخ والسياسة والحرب،
والفلسطيني الذي تركه الآخر أيا كان في جحيم الذل الإسرائيلي، صنع من الضعف قوة،
وقضيته الفاصلة أخرجت من الأمة كنوزها ورموزها، كما أخرجت منها خبثها وخونتها
وعملائها، والهجوم المذهل الذي حصل في السابع من أكتوبر 2023م يمثل تماهي الذكاء
والقوة، والتكتيك والاسترايجية في شيء واحد، وذلك للتذكير بأنه مازال هناك قضية
للفلسطينيين وستظل شوكة في خاصرة نفاق العالم وانحطاطه.
ولهذا يجب على الدول العربية دعم صمود
غزة للنهاية، سرا وعلنا، وذلك على حسب مقدرة كل منها، حتى وإن كانت تكره ما تمثله
المقاومة من أيديولجيا سياسية ودينية وثقافية، لأن توسع رقعة المواجهة سيسبب هزات
داخلية وخارجية (إقليمية ودولية) شرسة ومدمرة، وذلك لأن كل الاحتمالات مفتوحة في
غزة ولبنان وغيرها من الجبهات، كما وكل الخيارات مطروحة ويمكن الذهاب إليها في أي
وقت، والتي قد تصل لأن يكون مشهد المواجهة هو حرب الجميع، وليست فقط مواجهة بين
إسرائيل وحماس في غزة، أو بين حزب الله وإسرائيل على أرض لبنان.
كما أن مفهوم وحدة الساحات اليوم أصبح
يعني ضمان الحد الأدنى من التضامن الميداني والدعم المشترك بين فصائل محور
المقاومة، بخاصة حماس والجهاد وحزب الله وأنصار الله (الحوثيين)، والذي يتم تطبيقه
اليوم بفتح المواجهات بإيقاع مضبوط، وذلك وفق قواعد الاشتباك المتعارف عليها،
والتي تتضمن الاكتفاء بالرد على الهجمات دون تحويلها لحرب شاملة، وذلك ضمن سلوك
يعتمد على خطط وتكتيكات وحسابات مفيدة وصحيحة ومنسقة، مع إبقاء السيناريوهات الأخرى
مفتوحة، سواء بقرار من أحد الجانبين أو بخطأ غير مقصود يقود الأمور إلى التصعيد،
كما وأن تطور الأوضاع الميدانية في غزة هو من سوف يحدد مدى تطور هذه المواجهات إلى
حرب شاملة، فالحرب إما أن تتوسع وإما لا، كما وأنها قد تتوسع بحكمة من الحلفاء أو
بحماقة من الأعداء.
هذا وأثبت التاريخ وبشكل قاطع أن
الرأي العام في معسكر الأعداء، لا يلين ولا يستسلم، وتنهار روحه المعنوية إلا
عندما يقتل وينزف جنوده، وتتراكم خسائره البشرية والمادية، وهذا هو ما تكشفه صحف
إسرائيل نفسها في هذه الحرب، والتي تقول أن جيشها يستخدم ذخائر قديمة عمرها عشرات
السنوات، وذلك لنفاذ ما عنده ويتسول المزيد من حلفائه، كما وهيئة أركان العدو تقول
أنها في حاجة ماسة إلى آلاف الجنود (الإحتياط)، وذلك لكثرة المصابين في صفوف الجيش
(قتلى وجرحى)، وقيادته السياسية تبحث في تجنيد آلاف من المتدينين الحريديم، وهم
الذين في عرفهم لا يتجندون، ولهذا أصبح الجيش يأمر جنوده بتمديد خدمتهم العسكرية
لعدت أشهر أخرى، حيث استخدم هذا العدو الإسرائيلي ست فرق من جيشه لستة أشهر ولم
يفلح بعد في احتلال غزة، وهو الذي كان قد احتل سيناء في ستة آيام بثلاث فرق فقط،
هذا ولا ننسى تقلص اقتصاد العدو وانكماش حجم الاستثمارات فيه، ونزوح مئات الآلاف
من مستوطنيه عن الشمال والجنوب إلى الوسط، وخروج قرابة نصف المليون مستوطن من
البلاد ولم يعودوا إليها حتى الآن.
أما من يقول أن أهل الداخل في فلسطين
لم يتحركوا، وأن أهل الضفة لم يتحركوا، وأن المقاومة اللبنانية لم تدخل الحرب بكل
قوتها حتى الآن، فإن الجواب قد يكون بأن تأخر كل فئة يؤدي إلى تأخر أختها، فأهل
الضفة يرون أن أهل لبنان الأكثر سلاحا لم يدخلوا الحرب الشاملة بعد، وأهل الداخل
يرون أن أهل الضفة الأكثر سلاحا لم يدخلوا الاشتباكات العامة بعد، فيحجب الجميع،
لكن الإقدام معد للجميع وعند الناس أمل كبير في جدوى المقاومة الشامل، والجدوى
تزداد كل يوم ويراها القاصي والداني، وهكذا فإن لم تترك غزة وحدها فسيكون الاشتباك
العام في فلسطين وفي الإقليم، أما إن قبل العدو بضغط من حلفائه وقفا لإطلاق النار،
فسيكون الاشتباك العام مستكملا في جولة قادمة.
ما يحصل اليوم من حرب غزة يعتبر مقتلة
لم تشهد منطقة فلسطينية مثيلا لها منذ دخل الفرنجة القدس في الحملة الصليبية
الأولى عام (1096-1099م)، وإذا ترك أهل غزة وحدهم للنار وللأعداء، فإن مصير الخاذل
سيكون أسوأ من مصير المخذول، وسيبقي أهل الضفة وأهل الداخل وحلفاء المقاومة في
الإقليم ينتظرون الموت كل في داره، وذلك في التوقيت الذي يختاره لهم العدو، هذا
وإن الإحجام من الجميع سوف يبين لإسرائيل أن الإبادة تجدي، ويكون حالهم كأنهم
يدعونها لتكرار الإبادة عليهم كلما أرادت شيئا منهم.
وأخيرا نقول كما قال الشاعر تميم البرغوثي، ما زلنا أكثر منهم في فلسطين التاريخية وما زال الرحيل أسهل عليهم وأصعب علينا، ثم إن لم نيأس نحن رغم كل هذا القتل، فستيأس إسرائيل من أن تحقق تلك النكبة الثانية التي لا يستقيم بقاؤها إلا بها، وإن كان كل هذا القتل لم يهزمنا ولم يؤمنها، فلن يهزمنا شيء ولن يؤمنها شيء، وسييأس حلفاء إسرائيل بل ومواطنوها منها ومن المشروع الصهيوني برمته، وأيها الناس إن خذلتم غزة فأبشروا بجنود العدو في غرف نومكم، وسنكون قد اعترفنا بالهزيمة وبأن لها الحق في بلادنا، ودخلنا في زمرة من سالموا وتعاونوا معها، وأننا انهزمنا وذهبت دماء أحبابنا هدرا، فدافعوا أيها الناس عن غزة حيث أنكم تدافعوا عن أنفسكم، هذا ويجب أن يعلم الجميع أن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل بكثير من تكاليف العبودية، وأن الموت قادم وهو حق مكتوب على رقاب العباد وهو نهاية الجميع، وأن الوهن لن يؤخره، والذل لن يبدله والخوف لن يرده على أعقابه.