قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

مصالح فقه الموازنات في الحروب مع الأعداء

مصالح فقه الموازنات في الحروب مع الأعداء

- التعامل مع أسرى بدر وتخريب ممتلكات يهود بنو النضير وثقيف -

قضية أسرى بدر


لما أسر المسلمون سبعين رجلا من قريش في غزوة بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم)، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، فلما كان من الغد جاء عمر، فإذا رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقال يا رسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم – ثم أحل الله لهم الغنيمة.


نرى في قضية أسرى بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الصحابة في أمرهم ليتوصل إلى أكثر الأمور تحقيقا للمصلحة، فكان رأي الفاروق أن يقتلوا جميعا، لأن ذلك يحقق مصلحةً كبيرةً للدولة الإسلامية، وهذه المصلحة تتمثل في إرهاب العدو، وإظهار أن الدولة الإسلامية قوية الجانب ولا تتهاون مع المجرمين والمفسدين في الأرض، ومن المصالح أيضا التخلص من صناديد الكفر كيلا يقفوا عائقا أمام الدولة الإسلامية مستقبلا، فيما كان رأي الصديق رضوان الله عليه يميل إلى الرفق بهم، لأن في ذلك تحقيق مصالح تربو على مصلحة قتلهم والتخلص منهم، ومن هذه المصالح الكسب المادي الذي تحصله الدولة الإسلامية من فداء الأسرى، لأن الدولة الإسلامية الوليدة بحاجة ماسة للمال، ومن المصالح أيضا إعطاء فرصة لهؤلاء الكفرة ليتفكروا فيما أقدموا عليه من عداوة للإسلام، وما قابلهم به رسول الله من حسن معاملة إذ هم أهله وعشيرته، ولعل ذلك يعيدهم إلى جادة الصواب، ويهديهم إلى اتباع الدين الحق، وهذا ما حصل مع الأيام، إذ دخل عدد منهم في الإسلام.


ولقد هوى الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الصديق لما يحققه من مصالح، وأضاف إليها مصالح أخرى تتمثل في جعل فداء من لا يملك الفداء من الأسرى تعليم أولاد الأنصار الكتابة؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه.


ولكن القرآن الكريم نزل بترجيح الرأي القائل بقتل الأسرى، لأن دولة المسلمين في مرحلة التكوين والإعداد، وينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى ترهب من قبل أعدائها، وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها، ولكن مع ذلك أقرت الآيات المتلاحقة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، مع كونه مفضولا في هذه المرحلة.


وهنا يقول سيد قطب رحمه الله: (لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة، وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم، ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين، وكان هذا هدفا لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء، وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب، وهو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر – رضي الله عنه – في صرامة ونصاعة وهو يقول: وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، ولهذين السببين البارزين نحسب – والله أعلم – أن الله سبحانه كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بالمال).


كما ويذكر ابن حجر رحمه الله أن بعض السلف رأى تصويب رأي أبي بكر، لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولما استقر عليه الأمر بعد ذلك، وهو دخول كثير من أسرى بدر في الإسلام إما بأنفسهم وإما بذريتهم التي ولدت بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب كما ثبت ذلك عن الله في حق من كتب له الرحمة، وأما العتاب على الأخذ ففيه إشارة إلى ذم من آثر شيئا من الدنيا على الآخرة ولو قل.


ونلاحظ هنا أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى مبنية على موازنات دقيقة وخاصة في التعامل مع أصناف الأسرى، فالأغنياء منهم يأخذ منهم الفداء تقويةً للدولة الإسلامية بمالهم، والطواغيت منهم يقتلون كسرا لشوكة الكافرين وإرهابا لمن وراءهم، والمتعلمون منهم يعلمون أولاد المسلمين ليرفع الأمية عن المجتمع المسلم، والضعفاء الذين لا شوكة لهم يمن عليهم بالفداء طمعا في إسلامهم، وبالتالي فالإمام المسلم مفوض في أمر الأسرى على أن يكون الاختيار مبنيا على مصلحة المسلمين العامة.


تخريب ممتلكات العدو (يهود بنو النضير وثقيف)


ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار على بني النضير لمدة خمس عشرة يوما، ولكن ذلك لم يؤثر في كسر عزيمتهم وإجبارهم على الاستسلام، فلجأ رسول الله إلى أسلوب آخر للضغط عليهم، فأمر بقطع نخيلهم وتحريقها، فضعفت حماستهم للقتال، فنادوا: (أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟)، وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودبّ اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أُبي وعده بنصرهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألوه أن يجليهم ويكف عن دمائهم، وذلك على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل.


هنا استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الحرب النفسية لتحطيم معنويات العدو، ولجأ إلى أسلوب جديد وهو قطع نخيلهم وهو أعزّ ما يملكون، وكان لذلك أعظم الأثر في هزيمتهم النفسية واستسلامهم للرسول ونزولهم عند أمره، وقد استخدم نفس الأسلوب مع ثقيف، بحيث إنه لما طال حصار الطائف، واشتدت مقاومة أهلها وقتلوا مجموعة من المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف، ثم أوقف هذا العمل بعدما أحدث أثره في معنوياتهم وأضعف روح المقاومة عندهم، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل، كما ووجه النبي صلى الله عليه وسلم نداء لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد فأسلموا، فأعتقهم ولم يعِدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم.


الحرب النفسية مع الأعداء قليلة التكاليف عظيمة الأثر، فحري بالمسلمين أن يعوها ويعرفوا مصالحها ووسائلها المتنوعة والمتبدلة بتبدل الأزمان، وذلك على أن نفهم أن هذا القطع والتخريب ليس على إطلاقه، بل تتحكم به المصلحة وفقه الموازنات، إذ إن هذه الممتلكات ستؤول إلى المسلمين فلا مسوغ لإتلافها عليهم ما لم يجلب الإتلاف مصلحةً أكبر من الإتلاف، كإخافة العدو وإخزائه، ويقول في ذلك العز بن عبد السلام رحمه الله: (وأما إتلاف أموال الكافرين بالتحريق والتخريب وقطع الأشجار، فإنه جائز لإخزائهم وإرغامهم، ومثله قتل خيولهم وإبلهم إذا كانوا تحتهم في حال القتال، وكذلك قتل أطفالهم إذا تترسوا بهم، لأنه أشد إخزاء لهم من تحريق ديارهم وقطع أشجارهم).


وقد توسع الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في شرح ذلك، وقال ما ملخصه بعد أن ساق آراء الفقهاء في ذلك: (والذي ننتهي إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه، وأن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء؛ لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم وبذلك وردت الآثار، وأنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها، كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين، فإنه لا مناص من قطع الأشجار وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف، كما أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب، إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا).


هذا ونستنتج من كلام العلامة أبو زهرة رحمه الله أن الإفساد والتخريب ليس مقصودا لذاته لأنه مفسدة، والشرع لا يأمر بالفساد، وإنما أجيز باعتباره وسيلةً لمصالح كبرى تعود على المسلمين، والتي تتمثل في النكاية بعدوهم وانكساره واستسلامه لهم، وهذا كما قلنا خاضع لموازنات دقيقة تحدد مقدار الإفساد ومقدار المصالح المرجوة.


كما يقول الإمام القرطبي رحمه الله في ذلك: (قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له، ولكنه قطع وحرق، ليكون ذلك نكاية لهم، ووهنا فيهم، حتى يخرجوا عنها، وإتلاف بعض المال لصلاح باقية مصلحةٌ جائزة شرعا، مقصودة عقلا).

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart