الاختلافات بين مفاهيم فروض الأعيان وفروض الكفايات
قبل الخوض في هذه القضية المهمة وبيان مذاهب العلماء فيها، لابد لنا من بيان ما يشترك ويفترق فيه فرض العين وفرض الكفاية، والذي هو السبب الأساسي والرئيسي في اختلاف تعاريف العلماء للمفهومين، بحيث في البداية يجب أن نذكر أن فرض الكفاية وفرض العين يشتركان فيما يأتي:
أولا: كلاهما يشترك في الفرضية ابتداء، وذلك بمعنى حصول الإثم عند عدم القيام بهما، وحصول أجر الفرض عند القيام به.
ثانيا: كلاهما يلزمان بالشروع فيهما على وجه العموم، وإن كانا يختلفان في الضيق والسعة، وفرض العين أكثر تأكدا.
ثالثا: كلاهما منه ما هو ديني شرعي، ومنه ما هو دنيوي، حيث أن من فروض الأعيان الشرعية، الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، ومن فروض الأعيان الدنيوية، الوفاء بالعهود والشروط التي قطعها الإنسان على نفسه في معاملاته ومناكحاته، والوفاء بالديون التي في ذمته، وردّ الأمانات إلى أهلها، والنفقة على الأهل والأولاد وغيرها، أما من فروض الكفايات الشرعية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الإمامة العظمى وإمامة الصلاة والأذان والفتوى، وطلب العلم والقضاء بين الناس وحفظ القرآن والسنة وغيرها، ومن فروض الكفايات الدنيوية، تعلم العلوم التي يحتاجها الناس كالطب والهندسة والرياضيات ومختلف الحرف والصناعات وغيرها.
رابعا: كلاهما متفاوت بحسب أهميته، إذ ليسا على درجة واحدة من حيث العمل والعامل، فالصلوات الخمس بعضها أفضل من بعض، وفروض الأعيان متفاوتة في الدرجة، فالصلاة أفضل من الصيام، وكذلك رتب فروض الكفايات متفاوتة بحسب ما تجلبه من مصلحة، أو تدفعه من مفسدة، فليس بذل الشهادة لمن يطلبها أو ردّ السلام إذا كانوا جمعا، كالجهاد أو تعليم العلم أو الفتوى، وكذلك تتفاوت رتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتفاوت رتب المأمور به من المصالح، والمنهي عنه من المفاسد.
ما تفترق فيه فروض الكفايات عن الأعيان
أولا: أن فرض العين تتكرر مصلحته بتكرره، وذلك كالصلوات الخمس والصوم والزكاة وغيرها، والتي مصلحتها الطاعة والإجلال والتعظيم لله تعالى، وهو يتكرر حصوله بتكرر الصلاة والصوم والزكاة وغيرها، أما فرض لكفاية فغالبه لا تتكرر مصلحته بتكرره، وذلك كإنقاذ الغريق أو مساعدة التائه وغيرها.
ثانيا: فرض العين يكون واجبا على الجميع، ولا يسقط إلا بفعل كل واحد، أما فرض الكفاية فإنه واجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض، ففي فرض العين المصلحة قاصرة، بحيث يقتصر إسقاط الفرض عن نفسه فقط، أما في فرض الكفاية فتكون المصلحة متعدية، بحيث يسقط الحرج عن الأمة كلها.
ثالثا: فرض الكفاية يتميز بميزة واحدة، وهي كونه متعديا بخلاف فرض العين فإنه قاصر، والفعل المتعدي أفضل من القاصر.
هذا وبناء على ما تقدم اختلف العلماء في الأفضلية بين فرض الكفاية وفرض العين، وذهبوا في ذلك إلى مذهبين:
المذهب الأول: يرى أفضلية فرض العين على فرض الكفاية، وهو مذهب الشافعي والرافعي والسيوطي والزركشي والغزالي والقرافي رحمهم الله تعالى، حيث قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: (الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية)، واستدلوا بأدلة منها:
- أن فرض العين يلزم بالشروع إلا لعذر، وفرض الكفاية لا يلزم بالشروع إلا في الجهاد والجنازة.
- فرض العين يتعلق بكل واحد، وفرض الكفاية فيه خلاف في وجوبه على الجميع أو على البعض، والأمر إذا عمّ خفّ، وإذا خُص ثقل.
- من ترك فرض العين أجبر عليه، ومن ترك فرض الكفاية ففيه خلاف.
- أن فرض الكفاية قد يوجد من يقوم به، فيسقط الإثم والحرج عن الآخرين، أما فرض العين فلا بديل له ولا يقوم أحد مقام من تعين عليه.
هذا وقد عاب الغزالي رحمه الله على فريق من الناس، والذين يشتغلون بفروض الكفايات ويتركون فرض العين ويذكر منهم: (من اشتغل بعلم السلم، والإجارة، والظهار، واللعان، والجراحات، والديات، والدعاوى، والبينات، وبكتاب الحيض، وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه، ويضيع مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يتفقد جوارحه، ولا يخرس لسانه عن الغيبة، ولا بطنه عن الحرام، ولا رجله عن المشي إلى السلاطين، ولم يحرس قلبه عن الكفر والحسد والرياء وسائر المهلكات)، فهذا الشخص اشتغل بفرض الكفاية وهو تعلم علم الفقه، وترك فرض العين وهو تعلم ما فيه خلاصه في الآخرة، وذلك لأن من تعلم فقه النفس وأمراضها ليتخلص من هذه الأمراض، فسوف تصفو نفسه ويرضي الله عنه.
المذهب الثاني: يرى أفضلية فرض الكفاية على فرض العين، وهذا مذهب إمام الحرمين وأبو إسحاق الإسفراييني رحمهم الله تعالى، ومن أدلتهم:
- أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين، وذلك بإسقاطه الحرج عن المسلمين.
- أنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو ترك الجميع فرض الكفاية أثموا.
- العمل المتعدي أفضل من القاصر، وفرض الكفاية متعد وفرض العين قاصر.
هذا ويقول إمام الحرمين رحمه الله: (الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات وأعلى من فروع القربات من فرائض الأعيان، فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كاف نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب).
وتحرير موضع الخلاف في هذه المسألة، هو أن ما ذكر من تفضيل فرض الكفاية على العين محمول على حال التعارض في حق شخص واحد، ولا يكون ذلك إلا عند تعينهما، وحينئذ يكونان فرضا عين، وما يسقط الحرج عنه وعن غيره أولى، وأما إذا كان فرض العين متعلقا بشخص، وفرض الكفاية له من يقوم به، ففرض العين أولى.
كما ويمكن أن يضاف أيضا أن فرض الكفاية شرع من أجل إقامة فرض العين، فما فرض الجهاد إلا من أجل إقامة ذكر الله وأركان الإسلام، وما شرع طلب العلم إلا من أجل إقامة وضبط عبادة الخالق، وحتى الصناعات والتجارات هي من أجل عمارة الأرض على منهاج الله وشرعه وحكمه، فهي وسيلة لطاعته ورضاه، لا عمارة مجردة عن ذلك كما هي عمارة الكفار، وهنا تكون الفروض الكفائية أفضل لأنها مقصد بخلاف الكفائية التي هي وسيلةٌ لتحقيق هذا المقصد، والراجح والله أعلم أن التفضيل بين الفرضين يكون على أساس المصلحة على اعتبار أن الواجبات تتفاوت أهميتها بتفاوت مصالحها، وعليه فإن الذي يقدم حال التزاحم بينهما هو الأهم والأكثر مصلحة.
حالات تعارض فرض العين مع فرض الكفاية
الحالة الأولى: أن يتعارض فرض العين مع فرض الكفاية، ويتيقن أو يغلب على ظن المكلف وجود من يقوم بفرض الكفاية، فيقدم فرض العين جمعا بين المصلحتين، فتحصل مصلحة القيام بفرض العين به، ومصلحة القيام بفرض الكفاية بغيره، ومن أمثلة هذه الحالة الآتي:
- يقدم برّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله إذا وجد من يقوم به، فبرّ الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية، حيث ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ من عنده والدين عن الجهاد، وقال له: ففيهما فجاهد.
- من كان يطوف فرضا وحضرت صلاة جنازة، فلا يقطع الطواف المفروض لصلاة الجنازة.
- تقديم سفر المحرم مع زوجته للحج على الجهاد، ويدل على ذلك قصة الرجل الذي اكتتب في غزوة، وامرأته خرجت حاجّة، فأمره الرسول أن يحج مع امرأته، فقدم الرسول الأهم من الأمور المتعارضة، لأنه لما تعارض سفره في الغزو مع الحج معها، رجح الحج معها، وذلك لأن الغزو يقوم غيره في مقامه بخلاف الحج معها.
الحالة الثانية: أن يتعارض فرض العين مع فرض الكفاية، ويتيقن أو يغلب على ظنه أنه لا يوجد غيره يقوم بفرض الكفاية، بحيث تفوت مصلحته بالكلية، فيقدم فرض الكفاية، ويؤتى بفرض العين بعد تحصيل فرض الكفاية، لأن فرض الكفاية تحول إلى فرض عين في حقه، فيتقابل فرضا عين في حقه، ويزيد فرض الكفاية في تعدي المصلحة الحاصلة فيه، وخوف فواته، فيقدم فرض الكفاية، لأننا نكون أمام خيارين، إما تفويت مصلحة فرض الكفاية بالكلية والمحافظة على فرض العين، وإما تحصيل مصلحة فرض العين بالكلية وتفويت جزء منه وهو وقت فرض العين، فمثلا إذا أخرت الصلاة حتى خرج وقتها وأديناها بعد الوقت، وحفظنا نفسا من الهلاك، فإننا لم نضيع فرض العين، وإنما ضيعنا مصلحة الحفاظ على الوقت، وحصلنا على مصلحة فرض الكفاية بالكلية، ومن أمثلة هذه الحالة ما يأتي:
- من كان عنده قريب يمرضه ولا يوجد غيره، فإن صلاة الجمعة تسقط عنه.
- يقدم إنقاذ الغرقى والهلكى والحرقى على الصلوات والجمعة وإتمام الصوم والاعتكاف الواجب في حق من لا يتمكن من الإنقاذ إلا بترك هذه الفرائض المتعينة، لأن إنقاذ المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة.
- تقديم صلاة الجنازة على الجمعة إن خيف تغير الميت حتى وإن فاتت الجمعة، لأن حرمته آكدّ من أداء الجمعة.
- جواز الخروج في طلب العلم بلا إذن والديه، وذلك إذا لم يوجد في البلد من يطلب العلم عنده، وكان أهلا للإمامة، ممن جاد حفظهم وحسنت سيرتهم.
الحالة الثالثة: ألا يكون بين فرض الكفاية والعين تعارض مطلقا، وهذه أمرها واضح بحيث يجمع بين المصلحتين قدر المستطاع، ومثال ذلك العمل على حفظ الشريعة بطلب العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القيام بالصلاة والصيام وحق الأهل وبرّ الوالدين.
كما يتم تقديم فروض الكفايات التي لم يقم بها أحد على الفروض الكفائية التي قام بها البعض، ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به البعض، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كاف يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كاف وربما زائد عن الحاجة، وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمر من الناس، لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس وهو وحده الذي تعلم الفقه، ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس وكل ذي علم أو صنعة يحتاج إليها الناس، ومثل ذلك أيضا إذا كان له خبرة عسكرية معينة ولا يسد غير مسده.
هذا ويمثل الغزالي رحمه الله لذلك بتقديم الاشتغال بالطب وهو فرض كفاية، على الاشتغال بالفقه وهو فرض كفاية أيضا في بلد كثر فقهاؤه وقل أطباؤه، حيث يقول الغزالي رحمه الله: (كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء في أحكام الفقه، ثم لا نرى أحدا يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه،.... فليت شعري، كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟).