أصل الصداقة ومقوماتها ومتطلباتها وطبائعها
الصداقة هي علاقة متبادلة تجمع بين
شخصين أو أكثر، تستند إلى الصدق والثقة والحب والاحترام المتبادل، كما أنها علاقة
أساسية لصحة الإنسان النفسية والعاطفية، حيث تمنحنا الدعم والتشجيع في الأوقات
الصعبة والفرح والسرور في الأوقات الجميلة، كما وأن العلاقات الصداقية تختلف عن أي
علاقات أخرى قد نمتلكها، مثل الأسرة أو بيئة العمل أو منطقة السكن وغيرها، حيث
أنها تعتمد على الاختيار الطوعي والتوافق الشخصي والرغبة الداخلية، مما يجعلها
أكثر عمقا وإيجابية وتأثيرا، كما أن وجود الأصدقاء الحقيقيين في الحياة يمثل شكلا
من أشكال الدعم الروحي والمعنوي للإنسان، ويكونوا معينا له في الأوقات الهامة
وشريكا في الفرح والحزن.
كلمة الصداقة أصلها من الصدق والصدق
نقيض الكذب، وبهذا تكون الصداقة هي صدق النصيحة والحب والأحاسيس والمشاعر، وذلك
بمعنى أن تكون هذه الصداقة مساحة آمان لشخصيتك بكل ما تحمله من جوانب عاطفية
حقيقية وصادقة، ومنه فإن الصداقة تلبي احتياجاتك الاجتماعية والنفسية الداخلية،
بحيث يؤمن الإنسان فيها بأن صديقه سيكون عونا له في تلبية حاجاته المعنوية
والمادية، ويشكل الملاذ والسند له في الشدة والرخاء.
ولهذا فإن عدد الأشخاص الذين ينطبق
عليهم تعريف الصداقة في حياة كل فرد منا قليل جدا، فالبعض المحظوظ قد يجد عدد
محدود من الأشخاص يعدهم كأصدقاء حقيقين له، والبعض منا يمكن ألا يجد أحد وهذا شائع
في أيامنا، فحسب بعض الأبحاث فإن واحد من كل خمسة أشخاص من جيل الألفية عنده صديق
مقرب واحد فقط، أو حتى ليس لديه أي صديق مقرب إطلاقا، وهذه نسبة كئيبة وخطيرة
مقارنة مثلا بالاحصاءات المتاحة قبل عشر سنوات، هذا وفي إحدى الدراسات على مئات
السيدات الأجنبيات، والتي كانت تحاول أن تجد العدد الأمثل للأصدقاء للشخص الواحد،
أي العدد الذي نكتفي فيه ونشبع به حاجاتنا النفسية والاجتماعية دون الآثار العكسية
والضارة، تبين أنه يجب أن يتراوح عدد الأصدقاء من بين ثلاث إلى خمس صداقات وثيقة
ومستمرة، والتي بدورها تجعل الأماكن والأوقات جميلة، وتحقق السعادة والرضا عن
الحياة.
هذا ويقول كثير من علماء النفس بأن
دماغ الإنسان عنده طاقة محدودة في الحفاظ على العلاقات الإنسانية، وأن الإنسان
الطبيعي يحافظ على عدد قليل ومحدد من علاقات الصداقة النشطة في نفس الوقت، كما أن
هذه العلاقات تكون مقسمة إلى عدة دوائر متباعدة، والتي تبدأ بدائرة الأحباب
والأصدقاء المقربين جدا، وهؤلاء الأشخاص الذين نتفاعل معهم بشكل يومي تقريبا، ثم
تأتي بعدهم دائرة أبعد قليلا فيها الأصدقاء الجيدين والمقربين نسبيا، والذين
نقدرهم ونحبهم لكن تواصلنا معهم أسبوعي أو بشكل متقطع لكن ليس يوميا، هذا وتأتي
بعد ذلك دائرة الأصدقاء الهامشيين والبعيدين، والذين تواصلنا معهم يكون بمرور
أوقات طويلة (الشهور وأكثر)، وأخيرا دائرة المعارف الواسعة والمحيط الكبير حولنا،
والتي يكون التواصل معهم بمرور المناسبات واللقاءات المتباعدة (السنوية وأكثر).
وبالطبع هذه الدوائر السابقة ليست
حتمية أو صلبة، فالأصدقاء يتحركون من دائرة لأخرى حسب مجريات الحياة وظروف العلاقات
بينهم، فكم صديق كان يوما ما روح الروح وأقرب من القلب للقلب، لكن وبسبب ظروف
معينة صار هذا الصديق في الظل والهامش (والعكس صحيح)، وطبعا مشاعر المحبة والثقة
والتواصل تزداد وتنقص حسب كل دائرة، كما ومن الممكن وجود صديق واحد يملأ عليك كل
هذه الدوائر، فالصداقة لم تكن أبدا بالعدد أو بالقرب والبعد عموما.
كما وتلعب سماتنا الشخصية دورا كبيرا
في تحديد طبيعة صداقاتنا ودوائرها المختلفة، فمثلا الأشخاص الإنطوائيين يركزون
بشكل أكثر على دوائرهم الداخلية المكونة من عدد قليل جدا من الأفرد، أما الأشخاص المنطلقين
والمنفتحين السعيدين (الفرحين) فهم ينتشرون بين الدوائر كلها وبتفاعلات أعلى،
وكذلك الأشخاص الأكثر تفاؤلا فإن فرصهم في الصداقات الناجحة أعلى من غيرهم من
المتشائمين، وكذلك كلما كان الشخص أكثر توافقية وسمحا وسهلا في قراراته وآرائه
استطاع توسيع دائرة علاقاته وكسب عدد أعلى من الأصدقاء، وذلك لأن مثل هؤلاء
الأفراد يقومون بصنع بيئات ومجتمعات متداخلة ومتشابكة، ومليئة بروابط المحبة والأخوة
والتقارب مقارنة بالأشخاص النزقين والوحيدين الانتقائيين.
كذلك طفولتنا وطريقة تربيتنا وعلاقتنا
بالوالدين لها تأثير كبير على تحديد طبيعة الصداقات عندما نصبح بالغين وكبار، فحسب
نظرية التعلق أو الارتباط نعرف أن العلاقة
الآمنة بين الأهل وأطفالهم تصنع منهم أصدقاء رائعين في المستقبل، والعكس صحيح
فالأطفال الذين تعرضوا للتجاهل والإهمال والطفولة المدمرة يعانون كثيرا في تكوين
الصداقات في حياتهم مستقبلا، وحسب بعض الدراسات فإن هؤلاء الأشخاص أكثر عدوانية
تجاه الآخرين، فالطفل الذي نشأ في علاقة من الإهمال مع والديه أو حتى الطفل المدلل
الذي كانت علاقته مع والديه منفرطة وبدون حدود، كلاهما سوف يفقد الثقة في العالم
ويكون حساس ومتحفظ في تعاملاته مع الآخرين، وهو ما يصعب على هؤلاء بناء أي علاقة
صحية مع الناس عموما.
وهكذا عندما تواجهك أي مصاعب في تكوين
الصداقات أو مشاكل مع بعض الأصدقاء، فاحتمال كبير أن تكون جذور هذه المشكلة عميقة
في حياتك الشخصية، وقد تتطلب في بعض الأحيان تدخل معرفي سلوكي لتحسينها، كما أن
العمر أيضا يلعب دورا مهما في تحديد شبكة الأصدقاء المحيطة بك، بحيث ونحن في
العشرينيات من عمرنا نصل إلى أعلى عدد من الأصدقاء، وذلك لأن هذا العمر أكثر فترة
في حياتنا نكون فيها اختلاطا بالآخرين، وفي مقتبل العمر وبدون زواج غالبا، وأيضا ما
زلنا في الجامعة أو في بداية حياتنا الوظيفية، وذلك بحيث نكون في سعي مستمر ودؤوب
للتعارف أكثر، والعمل على رسم خطط لحياتنا، وكذلك مازالت فينا روح المغامرات
والتجارب ومسؤولياتنا قليلة نسبيا، لكن مع التقدم في العمر تبدأ الدوائر بالانحسار
ويبدأ الأصدقاء يتلاشون شيئا فشيئا بسبب انشغالنا بمتطلبات الحياة العائلية
والمهنية وكثرة المسؤوليات علينا، كما ويصبح وقتنا محدود وطاقتنا شحيحة نسبيا،
وهنا نبدأ بتصفية الأصدقاء ونبقي فقط على الثلة القليلة التي نعتقد أنها تحقق شروط
وغايات الصداقة الحقيقية.
وكذلك مع التقدم بالعمر فإن الكثير
منا تصبح عائلته تغنيه وتشبعه معنويا وماديا، وهنا تفقد الصداقة قيمتها بعض الشيء،
كما أننا مع التقدم في العمر يخف لدينا السعي خلف قبول الآخرين لنا حتى نحصل على
محبتهم ورضاهم ونبدا بتقبل أنفسنا كما نحن، ومزاجنا يصبح أضيق وأضيق، وهكذا تبدأ
شبكة الأصدقاء بالانكماش حتى يبقى لنا نخبة النخبة، والتي نقضي معهم أكثر وأكبر
الأوقات جودة وصفاء.
وأخيرا نذكر هنا أنه ومع شبكات
التواصل الاجتماعي الحديثة، أصبح هناك تركيبة جديدة للصداقة اسمها الصديق
الإلكتروني، وهذا النوع من الصداقات ميزتها هي نفسها نقطة ضعفها، فالميزة فيها هي
سرعة إقامتها وبضغطة زر من أي مكان في العالم، وكذلك تستطيع أن تظهر فيها أفضل
جوانبك الشخصية واهتماماتك، وبسرعة سوف تلتقي بالأشخاص المتناسبين مع متطلباتك
وطموحاتك وهواك، وهو ما يوفر شكل الصديق الذي لم تتحصل عليه بمحيطك الحقيقي، لكن
الجانب السلبي في هذه الصداقات هي أنها تتميز بالحب السائل وهشاشة الروابط
الإنسانية، أي سائلة مائعة لا شكل ولا ثبات لها، حيث هذا النوع من الصداقات بضغطة
زر أيضا تستطيع أن تنهيها.
وهذه الصداقات للأسف أصبحت مثل السلع
حاليا في حياتنا، خيار أسهل وأسرع والبدائل كثيرة، وكل شيء أصبح قابل للاستبدال
والتغيير وصولا للأصدقاء، حيث أن مستخدمي مواقع التعارف والتواصل الاجتماعي على
الإنترنت، أصبح بإمكانهم التعارف بآمان وسهولة، وهم واثقين بأنه بوسعهم دوما
الرجوع إلى السوق والتسوق من جديد، أي التسوق للصداقات والحب وذلك من دون أي إلزام
بالاستمرار أو الاحتفاظ والبقاء، وذلك مع ضمان بأننا نستطيع رد البضاعة المباعة (تركها
والتخلص منها) حال عدم الرضا عنها، وهذا القرب الافتراضي جعل اتصالنا ببعض أكثر
تكرارا وأكثر ضحالة، أكثر كثافة وأكثر اختصارا في نفس الوقت.