المصالح التي تحققت للمسلمين من حصارهم في مكة ومكاسب التحالفات
قال الزهري عن
فترة حصار مكة: (... المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ
المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها، أن يقتلوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب،
وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله،
فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا،
فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا أمرهم
ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه
وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدا
صلحا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل)، وفي رواية أخرى: (... على ألا ينكحوا
إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببا من أسباب
الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا
يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم
تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم).
وهنا لبث بنو
هاشم والمسلمون في الشعب ثلاث سنين، حتى جهدوا من ضيق الحصار، وأكلوا ورق السمر
(مفرده سمرة وهو شجر صحراوي صغير الورق والشوك)، وأطفالهم يتضاغون (يبكون بصوت
مرتفع) من الجوع، حتى يسمع بكاؤهم من بعيد، وقريش تحول بينهم وبين التجار، فيزيدون
عليهم السلعة أضعافا حتى لا يشتروها، ومع كل هذا القهر الذي نزل بالمسلمين كانت
تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ألا يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم،
فلا يشعلوا فتيل المعركة، أو يكونوا وقودها، وقد كان أعظم تربية في هذه المرحلة هي
صبر أبطال هذا الدين على هذا الأذى دون مقاومة، أبو بكر وعمر وعثمان وحمزة وغيرهم
رضي الله عنهم، حيث سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم،
فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يوما واحدا فقط، بل ثلاث سنين
عجاف، تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس.
أما المصالح
التي حصلها المسلمون من صبرهم وتحملهم للجوع والقهر لمدة ثلاث سنين عديدة، حيث
كانت هذه المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية الجائرة سببا في خدمة الدعوة والدعاية
لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج،
ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع
والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، فأثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك
لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
هذا وأثار
الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم
على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على
الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح
الحصار الاقتصادي والاجتماعي على أصحابه، وكان عاملا قويا من عوامل انتشار الدعوة
الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تماما.
كما كان من
تضامن مشركي بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايتهم له
كأثر من أعراف الجاهلية دليلا منه ومن غيره أنه يجوز للمسلم أن يستفيد من قوانين
الكفار فيما يخدم الدعوة الإسلامية، بشرط أن يكون ذلك مبنيا على فتوى صحيحة من
أهلها، وموازنات دقيقة تراعي مقدار المصالح والمكاسب المجتلبة، وما يدرأ هذا
التحالف من مفاسد حاصلة أو متوقعة.
ويقول الشيخ
سعيد حوى رحمه الله في ذلك: (إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية
الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي
للمسلمين فرصا، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة)، كما
أن التحالف السياسي بين المسلمين وغيرهم له صور وأشكال متعددة تتغير بحسب الظروف
وحيثياتها، وبحسب حال المسلمين ضعفا وقوة وحاجتهم إلى الصلح أو دفع العدوان، وكل
ذلك خاضع لمنطق السياسة الشرعية وفقه الموازنات الرشيدة.
هذا وقد ذكر
الباحثون في السياسة الشرعية عدة شروط أو ضوابطَ لأي تحالف يتم بين المسلمين
وغيرهم، أبرزها أن يحقق التحالف السياسي مصلحة للمسلمين، وأن تكون هناك حاجة
حقيقية وملحة تدعو إلى هذا التحالف، وأن يحقق هذا التحالف مصلحة راجحةً للمسلمين،
يقدرها خليفة المسلمين وحاكمهم في حال وجوده أو جماعة من العلماء المجتهدين
الحريصين المؤتمنين في إطار ما يعرف بالاجتهاد الجماعي، وذلك دون التنازل عن أي
جزئية من الدين أو العقيدة، أو أن يضع قيودا على الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته، أو
أن يجعل المسلمين تحت سلطان أعدائهم، كما وأن لا يلحق هذا الحلف ضررا بأية دولة
إسلامية أخرى أو جماعة إسلامية أخرى، فكل حلف أو معاهدة تشتمل على شروط تخالف
الإسلام في عقد التحالف فهو حلف باطل أو معاهدة باطلة.
والعمدة في كل
ما سبق هو مصلحة المسلمين والمحافظة على دينهم، وهذا يحتاج لدراسات معمقة وشاملة لهذه
التحالفات، وإخضاعها لفقه الموازنات الرشيدة، ولا بد أن يكون في الجماعة المسلمة
التي تجري هذه التحالفات من التربية الإيمانية وحسن الطاعة في أفرادها ما يمنع
ذوبانها واحتواءها، ويمنع من إقرارها لحكم ظالمٍ مستبد بالسكوت على ظلمه أو
التهادن معه كشرط من شروط التحالف.