مفهوم العبودية وتغيراتها التاريخية وارتباطها بالملكية
لقد كانت العبودية بأشكالها المتعددة،
موجودة في العديد من المجتمعات في التاريخ الإنساني المعاش لعدة قرون، والأسباب
وراء ذلك معقدة ومتعددة الجوانب، هذا وعلى الرغم من أن الحروب كانت الوسيلة الأكثر
شيوعا لأسر الأشخاص تاريخيا واتخاذهم عبيدا، إلا أن مؤسسة العبودية كان لها وجود
من طرق متعددة للدخول فيها بعيدا عن الحروب فقط، كما كانت العبودية قضية معقدة
وذات تحديات متنوعة من الناحية الأخلاقية على مرّ العصور، ولقد اقتربت أو ابتعدت
الثقافات والمجتمعات المختلفة منها بطرق متعددة، إلا أنه من المهم أن ندرك أن معظم
الممارسات التاريخية للعبودية لا تتوافق مع المعايير الأخلاقية الحديثة.
ولهذا فإن علماء المسلمين مثلا نصحوا
عموما بعدم الاعتماد فقط على الردود الدينية لتجريم العبودية، وذلك لأن هذه الردود
غالبا ما تكون مشروطة ثقافيا واجتماعيا بما هو سائد بين المجتمعات في أماكن وأزمنة
مختلفة، وهو ما يكون وسيلة للمجتمعات لتشكيل التغيير الأخلاقي مع مرور الزمن، حيث
أن القيم والقوانين السياسية والاجتماعية والثقافية للتاريخ الإنساني، يمكن أن
تؤثر في كيفية فهمنا للأخلاق السائدة في كل عصر، وتجعلنا نرى بعض الأفعال على أنها
مخالفة أو مقبولة من خلال السياق التاريخي.
هذا وتعتبر العبودية تاريخيا بمثابة
شرّ أخلاقي مطلق وكبير، وذلك في جميع الأمكنة والأزمنة التي تعاقبت على تطبيقها بأشكالها
المختلفة والمتنوعة، حيث أن العبودية تؤدي إلى انتهاك حق الإنسان الأصيل في الحياة
وهو (الحرية)، وتجعله في قيد وحزن مستمرين، كما وتعيشه بآلام مستمرة (نفسية
وجسدية)، ولهذا ليس هناك فرق بين عبودية جيدة وعبودية سيئة، عبودية كريمة وعبودية
مؤذية، فكل العبودية هي عبودية، ولا يمكن القبول بأي منها، كما ولا يمكن تبريرها
أو تسويغها.
أما لغز استمرار العبودية تاريخيا حتى
العصر الحديث نسبيا (القرن العشرين)، فسببه التناقض الذي كان ينشأ عند محاولة دمج
التاريخ والفلسفة (الدين) في تناولهما معا للعبودية، حيث أنه كان لهما تواليا
السلطة القانونية (سياسية واجتماعية وثقافية) والسلطة الأخلاقية (الدينية) علينا
نحن البشر في هذا العالم، فمثلا إذا كنت أمريكيا، فإن الدستور وآباء الأمة لديهما
تأثير على ثوابت وأساسات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فيها، أما إذا كنت
مسلما، فالقرآن وسنة النبي هما مصادر توجيهنا وأخلاقنا، بحيث إذا أمر الله تعالى
بفعل شيء، أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعل شيء، نطيع، وإذا نهى عن شيء،
نمتنع، وهنا يصعب الدمج والوفاء بهذه الأصول سوية في نفس الوقت مع اختلافاتها، كما
وأن محاولة عمل ذلك يمكن أن يؤدي إلى تناقضات في القيم والأخلاق والتاريخ، وظهور مشكلات
متعددة ومتداخلة للحياة المعاشة بكافة جوانبها.
وهكذا فإن موضوع الرق والعبودية حساس
للغاية ومليء بالتعقيدات والتناقضات والقيم الأخلاقية المتداخلة، وذلك بسبب تأثيره
التاريخي والمستمر على مختلف المجتمعات البشرية، وخاصة المجتمع الأوروبي والأمريكي
(الغرب)، حيث أن هناك صعوبة في التوفيق بين وجهات النظر والمعتقدات المختلفة حول
هذه المسألة، مما جعل من الصعب إيجاد حل نهائي ومباشر لها إلا مؤخرا نسبيا (القرن
العشرين)، حيث كانت تلعب مشاعر الناس وحياتهم الاجتماعية، ومعتقداتهم الثقافية،
وتفسيراتهم التاريخية دورا كبيرا في كيفية نظرهم إلى هذه المسألة.
ولهذا يجب التأكيد دائما على ضرورة
الدراسة المستمرة والفحص النقدي للتاريخ والقيم الأخلاقية السائدة في كل مرحلة منه،
وهذا بدوره سوف يساعد في إلقاء الضوء على الطبقات المعقدة للظلم التاريخي للعبودية
وتأثيراتها المتواصلة على المجتمع المعاصر، وذلك من خلال التذكير والتفسير الصحيح
لماضي وتاريخ المجتمعات، حيث أن الحرية ما كانت إلا مفهوم نسبي عبر التاريخ
الإنساني، ومنه كان التحدي الأساسي والرئيسي حديثا يكمن في وضع تعريف للعبودية
والرق يظل ثابتا عبر التاريخ وعبر مختلف المجتمعات والثقافات، ومع ذلك فإن تحقيق
تعريف من هذا القبيل صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلا، لكن تم تقديم العديد من
الطروحات لتعريف الرق والعبودية، وكل منها قدم مجموعة من التحديات والقيود، وذلك
مع التأكيد على أن العبودية في جوهرها ما هي إلا شرٌ أخلاقي وبغيض عبر كل الأزمنة
والأمكنة.
أولى النهج في تعريف الرق والعبودية
كان أنها فقدان للحرية، وفي هذا الرؤية يعتبر الشخص عبدا إذا فقد القدرة على فعل
ما يشاء دون قيود، ويتم التحكم في أفعاله من قبل شخص آخر، لكن المشكلة في هذا
التعريف هي أن مفهوم الحرية كان يختلف عبر فترات التاريخ المختلفة والمناطق، مما جعل
من الصعب تحديد معيار عالمي للحرية، أما المحاولة الأخرى لتعريف الرق والعبودية
كانت تتجلى في تصويرها على أنها ملكية شخص لآخر، إلا أن تعريف الملكية بدوره يختلف
اعتمادا على السياق، حيث تنطوي الملكية غالبا على مجموعة من الحقوق، مثل الحق في
الاستخدام والانتفاع، أو البيع أو الإتلاف، إلا أن هذه الحقوق تختلف عندما تطبق
على أنواع مختلفة من الممتلكات أو الحالات أو الأفراد.
هذا ولقد كان هناك تحديات دائمة
ومستمرة في تعريف مفهوم "الملكية" و"العبودية"، وذلك في
سياقات تاريخية مختلفة، بحيث تغيرت وتطورت تعريفات "الملكية"
و"العبودية" على مرّ الزمن، وذلك من خلال آثار الممارسات التاريخية
المختلفة لكل منهما، وهكذا اختلف ما يشكل ملكية أو عبودية في تصنيف هذه الممارسات
التاريخية، فالملكية كانت تعتبر بأنها امتلاك شخص ما لبعض أنواع الحقوق على شيء
ما، والذي يربط بين الملكية والعبودية، هو أن العبودية كانت تشمل ملكية واحدا من
الأشخاص الحقوق على شخص آخر، كما أن معرفة الفرق بين تعريف الملكية بالإكراه
والعبودية كان معقد جدا، وذلك بسبب تغير القيم المجتمعية وتصورات السلوك المقبول
مع مرور الوقت، بحيث ما كان يعتبر مقبولا أو إكراها أو خدمة في الماضي، قد لا
يتناسب مع المعايير الحديثة والمعاصرة اليوم، فالعوامل السياسية والاجتماعية
والثقافية أثرت في تعريف العبودية ومقاومتها، وأيضا حول ما إذا كانت بعض ممارسات
العمل تاريخيا تشكل عبودية أم لا.
كما أن تعريف العبودية قد اتسع مع
مرور الزمن ليشمل ممارسات لم يكن يعتبرها الناس عبودية في الماضي، وهذا التوسع
أثار تحديات في فهمنا للعبودية التاريخية وتأثيراتها، كما وخلق صعوبات في تصنيف
أشكال مختلفة من الخدمة والعمل تحت تعريف واحد للعبودية، إضافة إلى أن التبسيط
الزائد والإهمال في التفريق في الممارسات التاريخية، قادنا إلى عدم القدرة على
التمييز بين أشكال مختلفة من العبودية، واتخاذ أحكام أخلاقية في سياقات تاريخية
متنوعة، وهكذا فإن الإدراكات للعبودية تتغير مع مرور الوقت نتيجة للتحولات
السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث أن بعض الأفكار كانت أكثر قبولا أو تم رفضها
استنادا إلى تطور الآراء المجتمعية حولها.
ومما سبق ذكره يثبت لنا أن تعريف
العبودية ينص على وجود حقوق معينة لدى شخص على شخص آخر، وذلك دون أن يكون هناك أي
مشكلة، كما ويمكن أن يشمل هذا التعريف بالفعل مجموعة واسعة من العلاقات تتخطى ما
نفهمه عادة باعتباره عبودية، وهذا هو التحدي الذي يتعين مواجهته في تحديد معنى
الرق عبر الزمن والثقافات والمجتمعات المتعاقبة، والذي بدوره يبرز صعوبة فرض
إطارات مفاهيمية حديثة على السياقات التاريخية، وهذه التعقيدات تجعل من الصعب
صياغة تعريف عالمي للرق والعبودية يشمل مجموعة واسعة من الممارسات والمعتقدات المتعلقة
بإخضاع البشر عبر التاريخ الإنساني وصولا إلى يومنا هذا.