العبودية الجديدة لمصطلحات الصوابية السياسية
أصبح الخطاب السياسي العالمي اليوم تهيمن عليه كلمات ومصطلحات
الأيديولوجيا الليبرالية الفردانية الغربية، وذلك مع القضاء أو تهميش أو حتى
احتواء معظم الأيديولوجيات الأخرى، المخالفة أو المنافسة بالفعل داخل هذا التيار
الليبرالي عموما، حيث يمارس هذا التيار المراقبة الأيديولوجية الدائمة واليومية
على اللغة السياسية المستخدمة من الجميع، وذلك من خلال القيام بعملية عزل للكلمات
والمصطلحات والتعبيرات، وحتى الأفعال التي ترى هذه المنظومة أنها تخالف قاموسها
الخاص بها.
ما سبق ذكره أصبح يعبر عنه بمصطلح (الصوابية السياسية)، وهو مفهوم
سياسي جديد نسبيا بدأ بالانتشار مؤخرا، وهو يعني بالعموم تجنب استخدام اللغة،
النظريات، الأفعال والسياسات التي تهدف إلى الإساءة أو التهميش لأي مجموعة بشرية،
خصوصا تلك التي تعرضت للتمييز عبر أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، والعمل على
نشر مبادئ الاحترام والحساسية واللطف والتعاطف بين الناس، وجعل الجميع يشعر
بالانتماء والتقدير والفهم للآخرين (المختلفين)، وذلك بغض النظر عن عرقهم أو جنسهم
أو دينهم أو خلفياتهم أو أي شيء آخر يميزهم، والتأكيد على أن لا يشعر أي أحد كان
بالانتقاص أو الإهانة لمجرد كونه على ما هو عليه.
وهذه التعليمات الجديدة تنص مثلا على ألا نتحدث مع الناس بضمائر
مرتبطة بالجنس، وأن نستخدم ضمائر محايدة معهم، كما وأن نتلاعب باللغة ونستخدم أقل
المصطلحات تخصيصا وإن كانت صحيحة، وأن نستخدم أيضا أكثرها عمومية وتعاطفا، إضافة
إلى تجنب استخدام الألقاب حتى لا نكون متحيزين في الأوصاف، وأن لا نستخدم الكلمات
السلبية أو المسيئة وإن كانت معبرة، وأن نعمل على تغيير الكلمات المستخدمة في وصف
الأشخاص والأفعال والأحداث قدر الإمكان، وذلك حتى لا يكون فيها أي تلميح أو تعبير
عن معتقد ديني أو سياسي أو ثقافي وغيره.
وهنا نلاحظ كيف أصبحت الصوابية السياسية تعمل على تفادي إهانة أي
جماعة كانت من الناس، والابتعاد عن الخطاب التمييزي ضدها، والامتناع عن التصرفات
المسيئة والأفعال المزعجة التي تهين وتستبعد وتحتقر الآخرين، ويكون ذلك بإجبار
الناس على استخدام مصطلحات وكلمات وسلوكيات تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات معينة من
وجهة النظر الغربية فقط، والتي بدورها تعتبر عدم الالتزام بها مهددا للحياة السلمية
بين أطياف المجتمع المتنوعة.
وبهذا أصبحت الصوابية السياسية في حقيقتها ما هي إلا مجموع حزم
المقولات والأفعال المعيارية للثقافة الأسمى، ونمط الحياة الأكثر قبولا وانتشارا
اليوم في العالم (الأيديولوجيا الليبرالية الفردانية الغربية)، وجعل الرؤية العامة
للحياة الشخصية والاجتماعية والثقافية والمؤسساتية تحت سطوة هذه الأيديولوجية،
واستخدام تعبيراتها ومقولاتها في كل نقاش سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو حقوقي
وغيره، وطبعا من يمتنع أو يخالف أو حتى يتحفظ على ذلك، فسيكون عرضة للاتهام بكونه
رجعي أو متشدد أو متخلف أو متعصب أو عنصري أو إرهابي أو ذكوري أو أي مصطلح من
مصطلحات التكفير والتهميش العلماني الليبرالي الجديدة.
وهكذا نرى كيف يتم العمل من قبل الغرب الأوروبي والأمريكي على تأهيل
المجتمعات البشرية المختلفة والمتنوعة، وإعادة تربيتهم وتوعيتهم بقيم معلبة وجاهزة
وصحيحة كما يقول أصحابها، وذلك دون أي نقاش أو حوار أو حتى استفتاء لقبول هذه
الأفكار والمفاهيم لدى الناس بالطرق المتعارف عليها في كل مجتمع، بحيث يتم التعامل
مع أفراد الشعوب المتنوعة والمتفرقة وكأنهم أطفال صغار وغير مؤهلين للتعبير عن
أنفسهم أو اتخاذ أية قرارات ذات قيمة، والعمل دوما على حمايتهم وتوجيه اختياراتهم
وسلوكياتهم المختلفة.
لكن هذه الصوابية السياسية التي اخترعتها الحضارة الغربية وجعلتها
قيدا على ألسنة الناس، أصبحت في حقيقتها تقييدا لحرية الرأي والتعبير عموما، وذلك
بالرغم من أن هذه الحضارة الغربية نفسها تأسست على مبدأ الحريات إجمالا، بحيث
تحولت هذه الصوابية السياسية لتصبح واحدة من أكبر وأشرس أعداء حرية الرأي والتعبير
بالنسبة للآخرين المختلفين، وذلك مع انتشار الرقابة الصارمة والديكتاتورية التي
تفرضها هذه الدول ووسائل إعلامها على كل الكلمات المستخدمة في الأحاديث العامة،
وهذا بدوره أسكت معظم النقاشات الهامة والبناءة التي تحتاجها المجتمعات البشرية
للاستمرار والتطور، حيث أصبح الكثيرون لا يستطيعون التعبير عن آرائهم المتنوعة
بحرية بسبب الخوف من الإهانة أو الإساءة للآخرين.
إضافة إلى أن مفهوم الصوابية السياسية أصبح في الواقع يتغير كل بضع
سنوات وفقا لتغير أفكار الناس وأيديولوجياتهم وأمزجتهم وسلوكياتهم وأفعالهم، وذلك
بعد أن كان كل مجتمع بشري طبيعي عبر التاريخ يستخدم اللغة الخاصة به بشكل عفوي،
ويعبر عن مختلف الآراء والأفعال والأشياء بحرية، حسب عرف كل مجتمع والمعايير
المتفق عليها للأخلاق والحياء العام فيه وغيرها من ضوابط، ولهذ فإن تعمق هذه
الصوابية السياسية في المجتمعات العالمية اليوم بهذا الشكل، أصبح يشكل بدوره قيودا
صارمة يشكو منها الناس في كل الدول وصولا للدول المبتكرة والمصدرة لهذه الصوابية،
والتي تدّعي أنها تقود العالم اليوم (الغرب)، بحيث أنه باسم مراعاة مشاعر الناس
واحترامهم، أصبحت الصوابية السياسية حقا أداة سياسية لإسكات المعارضين والمخالفين
وقمعهم وتهميشهم، والذي بدوره أدى إلى ظهور أشكال جديدة من الفاشية أو النازية أو
الديكتاتورية أو السلطوية الشاملة الجديدة.
كما وهناك العديد من الدراسات والأصوات البحثية التي ذكرت بأن هذه
الصوابية السياسية، أصبحت تشكل تهديد صريح لحرية الرأي والتعبير وذلك باسم تحقيق
المساواة والتعاطف مع الآخرين، وأنه حتى الديانات لم تقيد بكل تشريعاتها الناس
بلغاتهم بالطريقة التي تفرضها الصوابية السياسية اليوم، كما وأن سطحية الصوابية
السياسية سوف تقود لا محالة إلى التطرف والعنف، حيث أن الأشكال المتعصبة منها
تتجاهل نوايا وأفكار الناس، وتركز بشكل مفرط على حساسيات خاصة ومعينة.
هذا والذي يجدر ذكره هنا أن من اخترع هذه الصوابية السياسية هم من أشد
المعارضين للرقابة الدينية التي كانت تفرضها الكنيسة القديمة، ولكنهم اليوم
يتحولون تدريجيا إلى كنيسة جديدة تفرض على الناس معاييرها وآراءها وأفكارها
الخاصة، وتقمع وتحارب وتهمش كل من يحاول انتهاك هذه المعايير الجديدة (دين جديد)،
وهو الذي يشكل ديكتاتورية كنيسة الصوابية السياسية الحديثة، والتي تمثل الحضارة
الغربية المعاصرة ذات الاتجاه الليبرالي العلماني الفرداني، بحيث تقوم بإنشاء
محاكم تفتيش على الأفكار والقلوب والكلمات والخطابات والأفعال، وتقيسها على مسطرة
معتقداتها الخاصة التي أنشأتها بمفردها، وتريد من الجميع تطبيقها والالتزام بها
ونشرها بكل الطرق.
وكما قلنا سابقا فإن مكنونات هذه الصوابية السياسية لا تزال تتجدد كل
فترة، وذلك حسب الأهواء والأمزجة والغايات المطلوبة والمشبوهة، كما وأنها باستمرار
تزيد من القيود والأغلال على المخالفين، وتنصب كمائن لما يقوله ويكتبه العلماء
والفلاسفة والمفكرون الناقدين والمعارضين لها، وتستجوبهم وتهمشهم وتحاربهم، وتحقق
مع الناس من أتباعهم لاستخراج معتقداتهم وتغييرها، وهي بذلك تنحدر كحضارة بسرعة
نحو الهاوية، وما إن تخرج من هاوية قديمة حتى تعود إليها شاءت أم أبت، والسبب في
ذلك أنها أسلمت نفسها للأهواء والعواطف العبثية والمشاعر غير المنضبطة، لأصحاب
المال وأهل السياسة المتقلبين، وصناع القرارات المصلحية عالميا، والذين كلما تغيرت
مصالحهم تبعها تغيير التشريعات والقوانين والأنظمة.
ولهذا فإنه من الضرورة زيادة التسامح مع حرية الرأي والتعبير في
الأوساط الجماهيرية الشعبية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية
والتعليمية، وعدم اتباع من يدير المشهد اليوم في العالم، والعودة الفعلية لأوامر
وضوابط دين الله تعالى، والذي أبرز ما فيه هو الحرب الشاملة ضد اتباع الأهواء
البشرية، وأن مصير كل حضارة في التاريخ تترك هدى الله تعالى وتتبع أهوائها
وآرائها، وتظن أنها بذلك أحكم مما أحله الله تعالى وحرمه، فإنها سوف تفشل وتتخبط
وتخلق لنفسها الأغلال والسلاسل والأصفاد المتجددة!!!