الصراع حول فلسطين جوهره ديني والتنازل لصالح الخطاب العلماني خسارة مبكرة
يتمحور الصراع حول فلسطين التاريخية
في جوهره الديني، وخاصة في بيت المقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، حيث كانت
تشكل الدوافع العقائدية الدينية القوة الدافعة الرئيسية للأطراف المتصارعة عبر
التاريخ حول هذه المنطقة، بدءا من اليهود والنصارى والمسلمين الذين قاتلوا جميعا
دفاعا عن مقدساتهم المرتبطة بهذه الأرض، هذا ورغم أن بعض القادة والساسة سعوا إلى
أهداف دنيوية كالتوسع أو المجد الشخصي، إلا أنهم اضطروا دائما إلى توظيف الغطاء
الديني للحصول على الدعم الشعبي وتحفيز المحاربين والمقاتلين في جيوشهم، وقد تجلى
ذلك في حالة الحملات الصليبية التي استخدمت شعار "تحرير قبر المسيح"
ذريعةً لأطماع مادية وتوسعية، كما وقد أدرك (تيودور هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية التي
شجعت اليهود على الهجرة إلى فلسطين لتشكيل دولة يهودية مستقلة أن ارتباط اليهود
ببيت المقدس سوف يكون هو المحرك الأساسي لهم لاحتلال فلسطين في بدايات القرن
العشرين.
هذا وتكمن خصوصية مدينة القدس في
الإسلام من مكانتها الدينية الفريدة كقبلة أولى ومسرى الرسول ﷺ، وهو ما يفسر
حساسيتها المتفردة مقارنةً بمناطق أخرى فقدها المسلمون كالأندلس وبلاد الهند
والسند وغيرها من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الخلافة الإسلامية، كما تبرز مفارقة
قيمتها الروحية مقابل فقرها النسبي في الموارد الطبيعية والمساحة الجغرافية، مما
يؤكد طبيعة الصراع الديني عليها والذي يتجاوز العوامل المادية والسياسية
والجغرافية والتاريخية، ولهذا يعد إنكار هذا البعد الديني عبثا بل خيانةً لتاريخ
الصراع وواقع المشاعر العقائدية العميقة التي تشكّل لبّه وجوهره، كما يعد التنازل
عن الخطاب الديني في الصراع حول فلسطين لصالح الخطاب العلماني خيانةً للمعركة
الحقيقية، وذلك بينما يتمسك اليهود بأساطيرهم الدينية مثل "شعب الله
المختار" و"أرض الميعاد"، مستمدين منها شرعية وجودهم في فلسطين كما
تؤكده تصريحات قادتهم من (حاييم وايزمان) الذي اعتبر التوراة "وثيقة ملكيتهم
القديمة"، إلى (ديفيد بن غوريون) الذي رأى في وعد بلفور مجرد اعتراف بحق
توراتي، وصولا إلى (مناحم بيغن وموشيه ديان) اللذين ربطا مصير إسرائيل بالنص
الديني.
لكن للأسف أصبح يأتي بعض المسلمين
اليوم ليواجهوا هذا الخطاب الإيماني اليهودي المتجذر بشعارات علمانية كـ"الحق
التاريخي" أو"حق تقرير المصير" أو "حقوق الإنسان"، وهي
شعارات باردة لا تحرك المشاعر الحقيقية ولا تستجلب القوى المؤثرة، ولا توازي حتى
القوة الروحية التي يمتلكها العدو، حيث كيف يمكن لخطاب يعتمد على مواثيق الأمم
المتحدة أن يصمد أمام خطاب يستمد شرعيته من الإرادة الإلهية والعقيدة الراسخة؟!
ولهذا فإن المعركة على أرض فلسطين في جوهرها دينية، والقدس ليست مجرد أرض تنازع
عليها الشعوب المختلفة، بل هي قضية إيمان وعقيدة ودين، ومن العبث – بل الخيانة –
أن يتخلى المسلمون عن سلاح الدين بينما العدو يستخدمه بكل شراسة، فالدين هو الذي
يمنح الأمل ويلهب الحماسة، بينما تظل العلمانية عاجزة عن إشعال روح المقاومة، لذلك
فإن رفع راية الجهاد والإيمان هو الطريق الوحيد لمواجهة هذا الصراع، وإلا فالمعركة
ستطول وقد نخسرها على طول الطريق وامتداد الزمن.
هذا ويبرز الصراع على أرض فلسطين قوة
الأمل الديني كمحرك أساسي للشعوب، فكما لاحظ (إيرك هوفر) فيلسوف الأخلاقية
والاجتماعية الأمريكي، كيف كان تحول اليهود من ضحايا مستسلمين في معسكرات النازية
إلى مقاتلين شرسين في فلسطين بفعل إيمانهم بـ "وعد التوراة" بأرض
الميعاد، مما يؤكد أن الإيمان الديني هو القادر على تحويل اليأس إلى مقاومة عنيدة،
كما وقد أدرك (زئيف جابوتنسكي) القيادي في الحركة الصهيونية العالمية ومؤسس وزعيم
الحركة التصحيحية الصهيونية هذه الحقيقة أيضا، حيث بنى استراتيجيته على سحق الأمل
العربي القومي عبر الردع الساحق وتحطيم الروح المعنوية، لكنه فشل في مواجهة
العقيدة الإسلامية الدينية التي تزرع في نفوس المؤمنين يقينا بالنصر الوارد في
القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (40 - الحج)، وبالعلامات الأخروية
كتحرير المسجد الأقصى ومواجهة اليهود والقضاء عليهم، فالإسلام كدين شامل ومتكامل
يشكل قوة لا تقهر، كما وأنه حتى العلمانيون مضطرون لاستخدام الخطاب الديني لتعويض
الفجوة النفسية وتحويل الصراع إلى معركة مصيرية تلهب المشاعر.
وهكذا يتجلى كيف أن الدين يشكل السلاح
الأقوى في هذه المعركة العقائدية، وأن أي محاولة لتحييد بعده الإيماني تعد خيانةً
للتاريخ وتسهيلا للمشروع الصهيوني اليهودي، فإذا كان العدو يقاتل باسم الدين،
فالتنازل عن هذا السلاح هو انتحار استراتيجي، وهو ما يفرض على المسلمين لزاما تبني
خطاب جهادي إيماني، وذلك لأن القضية ليست صراعا على أرض فحسب، بل هي معركة وجود
بين مشروعين دينيين: صهيوني يهودي مدعوم بالأساطير التوراتية، وإسلامي مستمد من
نصوص الوحي الحق ويقين النصر الإلهي.
كما وتقدم الخلاصات التاريخية رؤية
متكاملة لطبيعة الصراع حول فلسطين، حيث تؤكد أن الحركات التمهيدية - وإن لم تحقق أهدافها
كاملة - تلعب دورا حيويا في إبقاء القضية حية وتمهيد الطريق للنجاحات اللاحقة،
وذلك كما حدث مع الحركات اليهودية ما قبل الصهيونية، وفي الواقع العربي والإسلامي،
نجد أن العديد من الدول والحركات العربية والإسلامية قامت بهذا الدور التاريخي
التمهيدي رغم عدم وصولها للهدف النهائي (تحرير الأقصى)، مما يستدعي النظر إليها
كحلقات في مسار طويل وليس كفشل مطلق، كما أن خوض معركة التحرير النهائية يتطلب
امتلاك قاعدة شعبية راسخة ومؤسسية تنظيمية تدعمها، إضافة إلى الارتكاز على القوى
الطبيعية الفاعلة في كل المجتمعات العربية والإسلامية، وذلك حتى تحرز تقدم ملموس
على أرض الواقع في سبيل التحرر الكامل والنهائي.