قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

فقه الموازنات في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنائم

فقه الموازنات في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنائم

رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان يتألف قلوب الطلقاء والأعراب بالغنائم وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام، ولهذا أعطى زعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيما، إذ كانت عطية الواحد منهم تصل إلى مائة من الإبل، وقد كان من هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان وغيرهم، حيث كان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام أو كما قال أنس بن مالك: (إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)، وقد عبّر عن هذا صفوان بن أمية بقوله: (لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ).


ولقد تأثر بعض الأنصار لهذا العطاء الجزل لمن كانوا من قريب سدنة الكفر، وحرمانهم هم من هذا العطاء وسيوفهم لا تزال تقطر من دمائهم، فعن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة وقال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء .


قال رسول الله: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي . قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم. فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار: ما قالة، بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُللا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟، قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم عليّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة في الإناء) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة، لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.


هذا وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول لله صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما حديث بلغني عنكم؟، فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم.


بعد عرض هذه الروايات نتوقف عند كيف تم تقديم مصلحة إسلام بعض قادة المشركين، أو تثبيت إسلام حديثي العهد منهم على مصلحة الحفاظ على المال، فيبذل المال بسخاء لما يحققه من مكاسب للإسلام من دخول قادة الكفر في الإسلام، ويدخل بدخولهم جماعات وشعوب كثيرة تحت إمرتهم أو يتثبت بتثبت إيمانهم إيمان أتباعهم، وما المال إلا متاع الدنيا الفانية، لذلك قال النبي عن ذلك: (يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، وقال: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم)، فبين أن هذا العطاء ما هو إلا وسيلة لإسلام هؤلاء ولتأليف قلوبهم على الإسلام لأنهم حديثو عهد بكفر.


وهذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم يمثل مشروع لأي إمام مسلم من بعده إذا رأى في التأليف مصلحة للمسلمين والإسلام، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: (الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك – أي التأليف – للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين).


والمؤلفة قلوبهم لم يكونوا قسما واحدا، بل شكلو أقسام عدة، وكان في إعطاء كل قسم منهم مصلحة تفوق مصلحة المال ومنهم:


- قسم يعطى رجاء إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته كصفوان بن أمية الذي وهب النبي صلى الله عليه وسلم له الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إبلا كثيرة محملة كانت في واد، فقال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَ.


- قسم يعبر عنه ما رواه أنس رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتي قومه فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر.


- قسم من يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم من الصدقات، مدحوا الإسلام وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا.


- قسم من دخل حديثا في الإسلام، فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام، وذلك أن الداخل حديثا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.


- قسم كانوا قوم من سادات المسلمين وزعمائهم، ولهم نظراء من الكفار، فإذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم.


- قسم منهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.


- قسم منهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.


- قسم منهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم أو أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئي قاصر، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة.


وأخيرا مما سبق بيانه نرى أن المصالح التي تجبى من التأليف كثيرة، وتتمثل في استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصار جدد له، أو كف شر الأعداء عن دعوته ودولته، إضافة إلى تجلي ذلك في إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار الذين حزن فريق منهم لإيثار الرسول المؤلفة قلوبهم بالمال العظيم دونهم إلى حسن الموازنة بين الأمور، فالعطاء هذا ما هو إلا لتثبيت المؤلفة قلوبهم على الدين، أما الأنصار فلا يحتاجونه لأن إيمانهم كالجبال لا يحتاج إلى عرض الدنيا الفاني ليثبته، ثم ما قيمة هذا المال الفاني أمام ما سيكسبه الأنصار، فهم كسبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي سيرقيهم علميا وإيمانيا، وسيبني فيهم الإنسان الذي يريد الله استخلافه في هذه الأرض ليعمرها بالخيرات، وبالتالي لا مقارنة بين الثرى والثريا، بين جوار رسول الله والدنيا كلها، فلحظة من اللحظات الإيمانية تقضيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليك القرآن ويبين لك معانيه ويرقيك في معارجه، لا توازيها جبال الدنيا ذهبا، فلا أعظم من هذا المكسب ولا أثمن، ولقد زاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار فوق ذلك دعاءا مباركا لهم ولذراريهم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فهنيئا لمعشر الأنصار، وحشرنا الله تحت لوائهم يوم القيامة.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart