الانتماء الحضاري والديني الإسلامي روح الثورة الإسلامية في إيران
يعد التجذر الروحي والديني للشعب
الإيراني العامل الأبرز لاندلاع الثورة الإسلامية، حيث التفت الجماهير حول علماء
الدين الذين تصدوا بحزم للمشاريع البريطانية والأمريكية والصهيونية، مؤكدين على
تمسكهم بهويتهم الحضارية الإسلامية ورفضهم لأي محاولة لقطع صلتهم بهذا الإطار، وذلك
مع تأييد واضح ودعم متين للقضايا الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين، كما أن
محاولات الشاه محمد رضا بهلوي اليائسة لإغراق إيران بالبضائع الاستهلاكية
المستوردة ونشر الفساد والرذيلة بين الشباب، بهدف إلهاء الشعب عن قضاياه المصيرية
وتسهيل صفقات الخيانة دون معارضة شعبية، باءت جميعها بالفشل الذريع بفضل قوة
الانتماء الحضاري والديني لدى الإيرانيين، وهذا المصير نفسه الذي لاقته من قبل
مساعي والده رضا شاه الفاشلة عندما حاول إلغاء الحرف العربي، وفرض القبعة الغربية،
ونزع الزي التقليدي عن المرأة، وإلغاء العمامة والدراسات الدينية، حيث تصدت لها
إرادة الشعب وهويته الراسخة.
وهكذا شكلت روح الانتماء الحضاري
الإسلامي لدى الإيرانيين نواة مشروع عملي ونظري متكامل للعودة إلى دائرة الحضارة
الإسلامية، حيث قاد الإمام الخميني - حتى خلال فترة منفاه - عملية التنظير لهذا
المشروع ورسم معالم الطريق للشعب في مسيرته الثورية لمواجهة مخططات الشاه، وارتكز
خطابه في جميع نداءاته على فضح ما أسماه "المثلث المدمر": الشاه -
أمريكا - إسرائيل، باعتباره المصدر الأساسي لما عاناه الشعب الإيراني من إذلال
وتبعية وضياع للهوية، ومن هنا انبثقت الشعارات المركزية لأيام الثورة التي طالبت
بالتحرر من نظام الشاه، والاستقلال عن التبعية لأمريكا وإسرائيل، وإقامة الجمهورية
الإسلامية، ومع تصاعد القمع الرسمي وتوسع الحملات التشويهية ضد الإسلام، لم يتمكن
نظام الشاه من اقتلاع جذور الهوية الحضارية للإيرانيين، كما فشل في جميع مخططاته
الأخرى، بما فيها محاولة تغيير التقويم الهجري إلى تاريخ يبدأ من تأسيس
الإمبراطورية الأخمينية، مما اضطره في النهاية إلى التراجع وإعلان العودة إلى
التاريخ الهجري.
لقد واصل الإمام الخميني طوال فترة
منفاه، التنظير والتوجيه لتحقيق مشروع العودة إلى الانتماء الحضاري الإسلامي، حيث
انطلقت شرارة الثورة في السابع من كانون الثاني/يناير 1978م بمظاهرة سلمية عفوية
في مدينة قم احتجاجا على مقال أساء إليه، ففتحت قوات الشاه النار على المتظاهرين
وسقط عدد من الشهداء، وفي ذكرى الأربعينية لشهداء قم، أقام أهالي مدينة تبريز مجلس
تأبين لهم، والذي تعرض بدوره لهجوم عسكري أسفر عن سقوط شهداء جدد، مما أدى إلى
توالي إحياء مراسم الأربعينيات التي تحولت إلى مسيرات ضخمة شملت كافة المدن
الإيرانية.
هذا وخلال كل هذه الأحداث، ظل الإمام الخميني
يوجه نداءات متتالية يحث فيها الشعب على مواصلة الانتفاضة، حيث كانت أشرطته
المسجلة تلعب دورا محوريا في تحريك الشارع ضد النظام، وفي فبراير 1978م، خرجت
مظاهرات عارمة من مساجد تبريز فشلت قوات الأمن في السيطرة عليها، مما استدعى تدخل
فصائل عسكرية فرضت حصارا بريا وبحريا على المدينة، وتصاعدت حدة المظاهرات خلال شهر
رمضان المبارك والتي طالبت بإغلاق المطاعم والبنوك الربوية، ثم وقعت أحداث
"الجمعة الدامية" في 8 سبتمبر 1978م، التي سقط فيها أربعة آلاف قتيل في
مصادمات مع القوات الحكومية، وبعد إعلان الأحكام العرفية وتطبيق حظر التجول، تحدى
المتظاهرون في قم هذه الإجراءات وسقط أكثر من ألفي قتيل، فدعا علماء الشيعة إلى
إعلان الحداد وتعليق الخطب، وفي خضم هذا الجو المشحون بالمأساة، استمر الشاه في
إقامة الحفلات الباذخة، مما زاد من حدة الغضب الشعبي وعمق الشرخ بين النظام والجماهير.
أثارت أحداث تبريز مخاوف المسؤولين
الإيرانيين الموالين للشاه، فدفعتهم إلى البحث عن حلول للأزمة المتصاعدة في
البلاد، وفي خضم التصعيد الجماهيري والانتفاضة الشعبية العارمة، سعى نظام الشاه
إلى تهدئة الأوضاع عبر تغيير الوزارات بشكل متكرر محاولةً لاسترضاء الشعب، بل وظهر
الشاه شخصيا على شاشة التلفزيون في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1978م معتذرا عن فساد
نظامه ووعدا بالإصلاح، ومنذ تلك اللحظة شرعت وسائل الإعلام الحكومية في نقد مؤسسات
الدولة وحزب "رستاخيز" الحاكم، وذلك في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي
المتزايد في طهران وقم وتبريز وغيرها.
لكن الشاه ظل متمسكا بموقفه الرافض
لأي اعتراف بالمعارضة بجميع أطيافها، المعتدلة منها والمتشددة، بل ووصفهم بالقتلة
والخارجين على النظام، كما رفض نصيحة الجنرال "ناصر مقدم" – مدير
السافاك – الذي نصحه بالسماح بتشكيل أحزاب سياسية وإجراء انتخابات حرة وتطهير
أجهزة الدولة من الفساد، وقد شكل هذا الرفض القاطع من الشاه إشارة واضحة للمعارضة
بأن لا مجال للحلول الوسط، مما دفعها إلى توحيد صفوفها ضده متناسية خلافاتها
الجوهرية، والتي مهدت بدورها الطريق لتصعيد الثورة ونجاحها في نهاية المطاف.
لقد دفع التعنت السياسي للشاه وتصميمه
على رفض أي إصلاح حقيقي جميع القوى الوطنية إلى المطالبة بإسقاط نظامه، وانضم
إليهم في هذا المسار كبار التجار من أصحاب "البازارات" - الأسواق
التقليدية التي تضم مئتين وخمسين ألف تاجر - الذين كانت تربطهم علاقات وثيقة
بعلماء الدين، وكان لهؤلاء التجار تقليد راسخ في التعبير عن الاحتجاج من خلال
إغلاق محالهم التجارية والاعتصام في المساجد عند مواجهة السلطة، إلا أن الشاه قابل
هذه الحركة الاحتجاجية باعتقال ثمانية آلاف تاجر، مما دفع "البازار" إلى
إلقاء ثقله الاقتصادي والاجتماعي بالكامل في كفة الإمام الخميني ضد نظام الشاه،
مما شكل دعما حاسما في مسيرة الثورة.
وهكذا امتدت المظاهرات الشعبية لتشمل
أربعين مدينة إيرانية، وشارك الطلاب فيها بمقاطعة الدراسة، بينما أصر الإمام
الخميني على رفض أي حوار سياسي مع حكومة الشاه، مما أدى إلى سقوط الحكومة القائمة
وتكليف رئيس الأركان "غلام رضا أزهري" بتشكيل حكومة جديدة، وفي محاولة
يائسة لإنهاء الاحتجاجات، قدم الجنرال "غلام أوفيسي" - حاكم طهران
العسكري آنذاك - اقتراحا متطرفا للشاه يقضي بتدمير مدينة قم بالكامل، متوقعا أن
يخلف ذلك مليون قتيل، إلا أن الشاه رفض الاقتراح، ما دفع الجنرال إلى الهرب ومغادرة
البلاد.
لكن جهاز الأمن السياسي (السافاك) استمر بعمليات اعتقال جماعية، كما وأُصدرت الأحكام الصورية ونفذت أحكام الإعدام بعدد كبير من المعارضين، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والتضخم النقدي المتسارع، اتخذت حركة المعارضة فجأة في بداية عام 1978م أبعادا هائلة وذلك بدعم من آية الله الخميني الذي كان في منفاه في العراق، ثم في باريس يقود حركة المقاومة في مواجهة الشاه ويدعو الإيرانيين إلى قلب نظام الحكم الإمبراطوري وإقامة نظام جديد يقوم على المبادئ الإسلامية، حيث كان الخميني يدرك أثر (رسائله الصوتية) في إشعال الثورة الإيرانية، ولم تكن السافاك تقلقه رغم قوتها وبشاعة أساليبها، وذلك لأنه كان يعلم أن (50) ألف عميل من السافاك لن يستطيعوا مواجهة (35) مليون ثائر إيراني.
