تدمير مكة مكرمة
لم يعد يمكن لأحد ربما أن يصف مكة على أنها تعبر عن الجمال القديم لأقدس مدينة في الإسلام، حيث سوف يبحث الحجاج خلال أداء الحج أو العمرة عن تاريخ مكة المكرمة، لأن الموقع المعماري المسيطر في المدينة اليوم لم يعد المسجد الحرام حيث الكعبة المشرفة والتي تمثل المركز الرمزي للمسلمين في كل مكان بل هو فندق برج الساعة الملكي، والذي هو على ارتفاع 1972 قدمًا ويعتبر من بين أطول المباني في العالم، وهذا الفندق هو جزء من تطور ناطحات السحاب العملاقة التي تضم مراكز التسوق الفاخرة والفنادق والمطاعم التي تخدم فاحشي الثراء، فلقد دكت الجبال القديمة حول المدينة، وأصبحت تحيط بها اليوم بشراسة الهياكل الصلبة والخرسانات المستطيلة، وهو ما يشبه مزيجًا معماريًّا من ديزني لاند ولاس فيغاس، وهذا يدل على أن الأوصياء والمسؤولين عن هذه المدينة المقدسة (مكة) بالإضافة إلى بعض رجال الدين فيها، يحملون في نفوسهم كراهية عميقة للتاريخ، بحيث إنّهم يريدون أن يبدو كل شيء جديدًا.
فلقد بدأت المرحلة الأولى من تدمير مكة المكرمة في منتصف السبعينيات، حيث كانت المباني القديمة التي لا تحصى، بما في ذلك مسجد بلال، والذي يعود تاريخه إلى عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كل ذلك تم جرفه بالإضافة إلى تدمير البيوت العثمانية القديمة والتي تم استبدالها بأخرى حديثة وبشعة.
وهكذا وفي غضون بضع سنوات، تحولت مكة المكرمة إلى مدينة حديثة، فيها طرق كبيرة ومطاعم وفنادق مبهرجة ومراكز تسوق، كما تم مسح المباني والمواقع ذات الأهمية الدينية والثقافية المتبقية، بحيث تم بناء برج الساعة الملكي في مكة المكرمة، والذي أنجز في عام 2012، وذلك على أنقاض ما يقدر بنحو 400 من المواقع ذات الأهمية الثقافية والتاريخية والتي شردت منها الأسر التي عاشت هناك منذ قرون.
ويجدر الذكر هنا أن مجمع الساعة هذا يقف فوق أنقاض قلعة أجياد، والتي بنيت حوالي عام 1780 لحماية مكة المكرمة من اللصوص والغزاة، بالإضافة إلى بيت خديجة، وهي الزوجة الأولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي قد تحول الآن إلى مجموعة من المراحيض العامة، كما وأن فندق مكة هيلتون مبني فوق بيت أبي بكر الصديق، وهو الذي كان أقرب رفيق للرسول وخليفته الأول.
أما النواة الداخلية من المسجد الحرام فهي تحتوي على جزء كبير من التاريخ أيضًا، والتي تتكون من أعمدة رخامية منحوتة بشكل معقد ومزينة بأسماء صحابة النبي، بناها سلسلة من السلاطين العثمانيين، حيث إن تاريخ هذه الأعمدة يعود إلى أوائل القرن السادس عشر، والآن هناك خطط على قدم وساق لهدمها، جنبًا إلى جنب مع كل من المناطق الداخلية الأخرى للمسجد الحرام واستبدالها بمبنى عصري.
في حين أن المبنى الوحيد الآخر ذا الأهمية الدينية في مكة هو المنزل الذي عاش فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وخلال معظم العهد السعودي استخدم هذا المبنى لأول مرة كسوق للماشية، ومن ثم تحول إلى مكتبة وهي ليست مفتوحة للناس، ولكن حتّى هذا المبنى فإن رجال الدين السعوديين المتشددين دعوا مرارًا وتكرارًا لهدمه، لأنهم يخشون حسب قولهم من أن بعض الحجاج قد يصلون إلى النبي وليس إلى الله، وهذه خطيئة لا تُغتفر، كما أنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يتم هدمه وتحويله على الأرجح إلى موقف للسيارات.
فنلاحظ هنا أن التخريب الثقافي لمكة المكرمة يتم بشكلٍ جذري، فبعد أن كانت مكة مركزًا للفكر والثقافة الإسلامية العظيمة ومدينة التعددية، حيث كان النقاش دائرًا بين المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية المختلفة، أما الآن فقد تم خفض هذا المكان ليصبح موقعًا لكيانٍ ديني واحد فقط، بحيث تعتبر كل الطوائف الأخرى والتي لا تتوافق مع التفسير السلفي – الوهابي السعودي للإسلام خاطئة وكافرة.
وفي الواقع فإن كثيرًا ما يهدد المتعصبون في السعودية الحجاج والمعتمرين من الطوائف الأخرى، حتى أصبحت بعض الطوائف الإسلامية تطلب الحماية أثناء الحج والعمرة، وهكذا أصبح لمحو التاريخ المكي تأثير هائل على الحج نفسه، فبعد أن كانت كلمة (الحج) تعني بذل الجهد للسفر إلى مكة والقيام بالطقوس الدينية المفروضة، والتعامل مع أشخاص من ثقافات وطوائف مختلفة، أصبح اليوم رحلة مخططة سلفًا، حيث يمكنك التحرك مع مجموعتك فقط، ومن فندق إلى فندق، ونادرًا ما تصادف أناسًا من ثقافات وأعراق مختلفة، وهكذا استنزف الحج على صعيد تاريخه وتعديته الدينية والثقافية، كما لم يعد الحج تجربة روحية تحدث مرة واحدة في العمر، بل تم خفضه إلى ممارسة عادية للطقوس والتسوق.
رابط المقال
في ساسة بوست:
https://www.sasapost.com/opinion/the-destruction-of-mecca-2/