السلطان أردوغان بعد محاولة الانقلاب أصبح ديكتاتورا
السلطان
أردوغان قبل الانقلاب
كنا وما زلنا أشد المعجبين بالتجربة الديمقراطية التركية، وتزاوجها الناجح بين الإسلام والديمقراطية، وتحقيق نهضة اقتصادية إعجازية، فمنذ عام 2002 حقق حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة أردوغان لتركيا ما لم يحققه أي زعيم تركي من قبل، ونقل البلاد من دولة عسكرية ينخرها الفساد إلى دولة مدنية صاحبة اقتصاد قوي ومتنامٍ ومليئة بفرص الازدهار والقوة والاستقرار (الذي تزعزع في الآونة الأخيرة)، وإن كان ذلك على حساب البعض من حقوق الإنسان والحريات العامة، لكن من المحزن أن يتم هدم وتدمير كل هذه الإنجازات من أردوغان نفسه وذلك باتباع سياسات تتسم بالغرور والغطرسة وسوء التقدير في قضايا عديدة.
الغرور والغطرسة نفسها امتدت للصحافة، فأصبح أي انتقاد بسيط يوقع في مشاكل قانونية حقيقة، فطبقا لمجلة (فورين بوليسي) فإن الأتراك يعتقدون أن التزام أردوغان بالإصلاح لم يكن حقيقيا وأنه لا يؤمن بالصحافة الحرة، بل يريدها صحافة يتم توجيهها، والدليل على ذلك أن تركيا اليوم تمتلك أكبر عدد من الصحفيين في السجون بالنسبة لتعداد السكان في العالم.
فهكذا أصبح أردوغان يحكم تركيا حكما أيديولوجيا تتزايد فيه قوته باستمرار، كما لم يعد يهتم أيضا أن يبدو حكمه ديمقراطيا، فبعد فوزه بسباق الرئاسة الأخير واحتمالية فوزه بمدة رئاسية أخرى بعد هذه المدة، هذا يعني أن حكمه لتركيا سوف يمتد لعشرين سنة متواصلة، أصبح من خلالها أردوغان واحدًا من الحكام المستبدين بالسلطة، حيث قام بتعديل الدستور لمصلحته الخاصة والمتمثلة في توسيع صلاحياته الدستورية وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وتكريس كل القوى بيده والمضي قدما في سياساته الحالية، خاصة الخارجية منها والتي أوصلت تركيا إلى هذه المنزلقات الخطيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فحين يحيط قائد نفسه بالمتملقين ويقمع الصحافة الحرة، فإنه يخاطر مخاطرة كبيرة، لأنه في الوقت ذاته يغلق نافذته الحقيقية على شعبه وعلى العالم، لهذا فقد تفاجئه أحداث مثل محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت منتصف هذا الشهر وأحداث مشابهة لها مستقبلا، وذلك في محاولة لرفض شروط ديكتاتورية الرئيس أردوغان المتزايدة، متجاهلا حقيقة أن نسبة كبيرة من الشعب اختاره وأعطاه تفويضا للحكم والمضي قدما أولا بدافع العداء ضد الجيش والحكم الديكتاتوري السلطوي الشمولي.
أردوغان وعد الأتراك بتمثيلهم جميعا، لكنه في الحقيقة يعبر فقط عن فئة بعينها من الشعب التركي، فلم تعد تعنيه العلمانية التي كانت عماد الدولة لمدة 90 عاما، ولم يعد يرى ضرورة للاهتمام بآراء الليبراليين أو حتى تمثيلهم، كما أن الفساد يستشري في الاقتصاد التركي والعملة غير مستقرة على الرغم من وعوده المستمرة بإصلاح الأمر، بالإضافة إلى أن وعده بتحقيق السلام (لا مشاكل مع الجيران) فشل فشلا ذريعا وذلك بسبب سياساته العدائية والتي عزلت تركيا وفصلتها عن الجميع تقريبا، فأصبحت تركيا تعاني من مشاكل مع كل جيرانها تقريبا (العرب والغرب) حتى أصبحت (صفر علاقات).
فعشرات المشاكل والأزمات باتت تحاصر تركيا نفسها وتهدد أمنها واستقرارها، بحيث أدت التدخلات التركية في الأزمة السورية إلى فقدان الأمن والاستقرار الأمني وحتى السياسي في تركيا، وذلك بسبب انتشار الجماعات الإرهابية مثل داعش وأخواتها والتي نفذت عدة تفجيرات دموية استهدفت أتراكًا وسياحًا، وتسببت في إرباك قطاع السياحة، وهي نفسها التي دعمها أردوغان من قبل نتيجة عدائه الشخصي مع النظام السوري بالإضافة لقناعاته الطائفية، ثم جاء بعد ذلك توتر العلاقات مع موسكو واتخاذ الأخيرة عدة إجراءات صارمة ضد تركيا بعد إسقاط الأخيرة لطائرة السوخوي الروسية في الأجواء السورية قرب الحدود مع تركيا، بالإضافة إلى توتر العلاقات مع العراق والخلافات مع واشنطن على خلفية التعامل الأمريكي مع الأكراد السوريين وغيرها.
كما وصلت عنجهية أردوغان إلى أصدقائه أيضا (فتح الله غولن)، فبعد أن استتب الأمر لأردوغان، قرر أنه حان الوقت للتخلص من غولن وأتباعه، فصادر أصولهم وأموالهم وألقى القبض عليهم بتهم ملفقة ووصمهم بالإرهاب، وذلك على الرغم من أن فتح الله غولن وأتباعه وأنصاره والذين يقدر عددهم بالملايين هم من كانوا ينتخبون أردوغان وحزبه على مدى السنوات الماضية، بحيث أنهم يشكلون نسبة انتخابية وازنة في النسيج والمجتمع التركي.
أما الأكراد فقد دعموا أردوغان ورأوا فيه أملا قد ينقذهم من مظالم عمرها عقود، فبدأ مفاوضات سرية مع (حزب العمال الكردستاني) المحظور وزعيمهم المسجون (عبد الله أوجلان)، ولكن بعد الانتخابات لم تتحقق الوعود، فحاول الأكراد البحث عن أمل آخر فصوتوا لـ (حزب الشعب الديمقراطي) بدلا من (حزب العدالة والتنمية) ما جعل أردوغان ينقلب عليهم منتقما، ليحول منطقة جنوب شرق تركيا إلى منطقة حرب مثلما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي.
أردوغان لم يدرك تكلفة الدور الذي اختاره لبلاده سوى متأخرا، والدليل على ذلك التغير الواضح في السياسة الخارجية التركية، حيث إن أردوغان وحكومته وبعد الفشل في الإطاحة بالنظام السوري بعد خمس سنوات من التدخل العسكري المباشر وغير المباشر، وما ترتب على ذلك من مآس وسفك دماء، أظهر قليلا من المرونة بخصوص القضية السورية، وذلك في مقابل السماح للجيش التركي بردع التنظيمات الكردية داخل الحدود السورية، كما أن تركيا تفطنت إلى أن القطيعة مع الروس تمثل حماقة إستراتيجية كلفت وستكلف الأتراك ما لا طاقة لهم به، وبالتالي تمت المسارعة إلى الاعتذار للرئيس بوتين وإبرام المصالحة، وأخيرا تم الإقدام على التطبيع الكامل مع إسرائيل وما ترتب عليه من تنسيق أمني وعسكري (دون رفع الحصار عن قطاع غزة) وهو تطبيع مرفوض ومدان مهما كان الثمن المقابل، وذلك على ما يبدو للاحتياط من الغضب الأمريكي من التقارب التركي الروسي.
أردوغان بعد
محاولة الانقلاب ديكتاتور
بعد أن تمكن أردوغان من قمع المحاولة الانقلابية، فإنه ربما سيصبح أكثر تشكيكا وحذرا وسيرى المؤامرات في كل شيء، مما يعني المزيد من القمع في تركيا، فالرئيس التركي قال: (إن محاولة الانقلاب هدية من الله) أي أنها جاءت ليتمكن من تطهير المؤسسات وتوظيف محاولة الانقلاب والمعارضة الشعبية الواسعة لها كغطاء وضوء أخضر للقضاء على مؤامرات مزعومة، حيث توعد كل من شارك فيما حدث على المستوى الداخلي، فها هو يرسل إشارات قوية بأنه سوف يعيد العمل بأحكام الإعدام لمعاقبة المتآمرين، كما أن التغييرات قد تطال أيضا علاقات تركيا مع الدول التي يثبت أنها كانت مشاركة بشكل أو بآخر بالترتيب للانقلاب، بالإضافة إلى أنه تحدى الولايات المتحدة واليونان بأن تسلما المعارضين المتورطين في المؤامرة، وأهمهم رجل الدين فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا.
فقد تفاعلت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية بشكل لافت مع محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، فقناتا العربية والحدث السعوديتان وقناة سكاي نيوز الممولة إماراتيا بالإضافة إلى وسائل إعلام مصرية، ومنذ الدقائق الأولى للحدث بشرت المتابعين بانقلاب أطاح بأردوغان ونظامه، وقد تحدثت هذه القنوات بثقة عن نجاحه، كما وتحولت للحديث عن مراحل ما بعد أردوغان فيما كانت الأنباء شحيحة ولم تترشح أخبار مؤكدة عن نجاح الانقلاب من عدمه، ولكن بعد فشل محاولة الانقلاب عبرت مذيعة قناة العربية السعودية عن أسفها، ما يعني ذلك احتمالية تورط السعودية والإمارات في هذا الانقلاب العسكري أو على الأقل وقوفها إلى جانب الانقلابيين، الأمر الذي يعزز المعلومات القائلة بأن أطرافا إقليمية متورطة في هذا الانقلاب، بل أكثر من ذلك أن أمير دولة قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني طبقا لما نقله موقع بانوراما الشرق الأوسط اتهم السعودية بالتواطؤ مع هذا الانقلاب، حيث صرح الأمير بأن الولايات المتحدة الأمريكية وإحدى الدول الغربية تقف وراء هذا الانقلاب، كما ندد بتواطؤ وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وتعاونه مع هذه الدول والتزامه الصمت تجاه ما حدث في تركيا، لأنه كان على علم بما يحاك ضد الدولة التركية واستقرارها، وفي نفس الوقت صب الأمير حمد جام غضبه على الإعلام التابع المروج للسياسات السعودية والإماراتية لترحيبه بالانقلاب العسكري على حد وصفه.
فشل الانقلاب لن يكون نهاية المشاكل وعدم الاستقرار في تركيا، إلا إذا تحلى الرئيس أردوغان بالحكمة وضبط النفس وعمل على إجراء مراجعات جذرية للكثير من سياساته ومواقفه، التي وضعت تركيا على حافة الهاوية وعدم الاستقرار، ولكن ما نراه حاليا من مؤشرات لا يوحي بذلك، حيث إن أردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة يريد إعادة تشكيل الدولة التركية حسب مقاساته وحزبه، فقد بدأ بالسيطرة على المؤسسات المختلفة في الدولة بحملة تصفية حسابات وأعمال تطهير شملت عشرات الآلاف من القضاة والمدرسين والأئمة ورجال الأمن وموظفي الدولة والضباط الكبار والصغار عن طريق الاعتقال والفصل التعسفي والتي تزداد اتساعا كل يوم، وذلك فيما يبدو أنه ملاحقة دون إثباتات لقمع المعارضة والمعارضين، وخاصة العناصر التي لها ارتباط بخصمه فتح الله غولن وتلك التي تكن العداء لحزب العدالة والتنمية، بما في ذلك قضاة في المحكمة الدستورية الذين لا يجوز اعتقالهم إلا بقرار من المحكمة نفسها حسب النص الدستوري المؤسس لها.
ويذكر هنا أن فتح الله غولن قد أدان محاولة الانقلاب التي باءت بالفشل، مؤكدا أن أي حكومة في تركيا يجب أن تفوز عبر عملية انتخابات حرة ونزيهة وليس بالقوة، كما وأضاف أنه كشخص قد عانى في ظل الانقلابات العسكرية المتعددة خلال العقود الخمسة الماضية في تركيا، وأن من المهين أن يتهم بوجود أي صلة له بهذه المحاولة، إلا أنه تساءل في الوقت ذاته عما إذا كان هناك احتمال أن يكون هذا الانقلاب منظما وأن غرضه مزيد من الاتهامات ضده وضد أتباعه، متهما أردوغان بأنه تآمر على نفسه كحيلة سياسية لقلب المسرح السياسي على حد تعبيره.
وتثير هذه الاعتقالات الموسعة جدلا كبيرا لدى أوساط حقوق الإنسان والأوساط التركية الحزبية، لكن إعلان حالة الطوارئ رسميا صار يبررها، وهذا لا ينفي بتاتا أنه يجب معاقبة كل المتورطين في محاولة الانقلاب، فهؤلاء يستحقون أقصى العقوبات، ولكن بعد محاكمات عادلة وشفافة.
إفشال الشعب التركي ومؤسسته العسكرية للانقلاب العسكري، يجب أن يكون فرصة ذهبية يستغلها الرئيس أردوغان لتحقيق المصالحة الوطنية وردم هوة الانقسامات وتعزيز صورة الجيش التركي وتثبيت دوره كمؤسسة لتركيا وكل أبنائها، وليس للحصول على تفويض بالانتقام ونصب المشانق وإعادة العمل بعقوبة الإعدام الملغاة دستوريا منذ عقود.
نقف في خندق
واحد مع مئات الآلاف من الأتراك الذين تظاهروا ويتظاهرون انتصارا للدولة المدنية
وضد الانقلاب وحكم العسكر، ولكننا لن نكون مطلقا مع حكم ديكتاتوري باسم
الديمقراطية، وذلك مع تسليمنا المطلق بأن صندوق الاقتراع الذي أتى بحزب العدالة
والتنمية ورئيسه أردوغان إلى السلطة هو الوحيد الذي يجب أن يزيله منها، لهذا يجب
على أردوغان والحكومة التركية العمل بحذر في هذه الفترة الصعبة، لأن حكم القانون
هو الضامن الوحيد لشرعية الدولة، وطريق أردوغان الأصوب للبقاء في الحكم هو الوحدة
والدعم الدولي له وليس الديكتاتورية المتغطرسة.
رابط المقال
في ساسة بوست:
https://www.sasapost.com/opinion/sultan-erdogan/