التطور التاريخي للتعامل مع ذوي الإحتياجات الخاصة
من يطلع على كتب التاريخ ويدرس أنماط المعيشة في المجتمعات البشرية المختلفة على مر العصور، يجد فروقاً واضحة في ما بينها،كما ويتضح له مدى التطور الحضاري الذي وصل إليه الإنسان ومدى إقترابه أو إبتعاده من الأخلاق الإنسانية التي يجب أن يتصف بها ليكون جديراً بإنسانيته، ويبتعد بها عن كل ما يهبط بها إلى وحل اللاإنسانية.
وعند دراستنا للتطور التاريخي للتعامل مع ذوي الإحتياجات الخاصة في مختلف المجتمعات الإنسانية وعبر العصور المتلاحقة،نلاحظ أن النظرة إلى المعاق بشكل عام كانت مختلفة من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر،وذلك على الرغم من أن أي مجتمع إنساني عبر التاريخ لم يخل من وجود الإعاقة بأشكالها المتعددة والمتنوعة بين أفراده.
فقد أشارت كتب التاريخ إلى أنه عثر في جدار معبد مصري قديم على رسم عمره 5 آلاف سنة لطفل فرعوني مشلول الساق قال عنه المختصون في الطب أنه إشارة إلى مرض شلل الأطفال،كما يذكر أن (منفتاح الأول) حوالي سنة (1200 ق.م)،قام بعزل آلاف من المجذومين (المقطوعين اليد) من بني إسرائيل في محاجر خاصة ثم أسكنهم بعد ذلك في مدينة (ثانيس) بشمال الدلتا الشرقي،حيث كانت المدينة خالية بعد طرد الهكسوس منها،وقد قيل أن إستفحال المرض بين بني إسرائيل كان من بين الأسباب التي دفعت الفراعنة لطردهم من مصر.
أما من جهة أخرى فإن مصر القديمة عرف المجتمع فيها كيفية التعامل مع المعاقين منذ القدم،حيث كان هذا المجتمع أول من عرف تدعيم الأسرة ورعاية الطفولة والمعوقين،ففي عهد الفراعنة حذر حكماء المصريين الناس من السخرية بالمعوقين، ومن أمثلة ذلك قول (أمنموبي): (لا تسخر من أعمى ولا تهزأ من قزم ولا تحتقر الرجل الأعرج ولا تعبس في وجههم،فالانسان صنع من طين وقش،والله هو خالقه وهو القادر على أن يهدم ويبني كل يوم)، ولم تكتفي مصر في ذلك الوقت بخطر الإستهزاء بالمعاقين بل كانت تتطلب الإسراع إلى مد يد العون إليهم، هذا ويذكر أنه في العهد الأشوري والبابلي سجل حمورابي قوانين الجزاء والعقاب على قوالب الطين،كما سجل عليها طرقا لعلاج مبتوري الأطراف وفاقدي البصر.
وبالإنتقال إلى قارة أميركا الجنوبية وتحديداً في أرض البيرو،فقد عثر الأثريون على عظام جمجمة لرجل قديم تحمل ملاح ثقب منتظم الجوانب قيل عنه إنه أثر لعملية جراحية كان الأطباء البدائيون يقومون بعملها من أجل علاج مرضى العقول، بحيث يثقبون جماجمهم لإفراغها من الأرواح الشريرة التي تسكنها كما كانوا يعتقدون.
هذا وشهدت مجتمعات روما وإسبارطة قديما معاناة المعاقين من الإضطهاد والإزدراء والإهمال،فقد كانوا يتركون للموت جوعاً نتيجة للمعتقدات الخاطئة التي كانت سـائدة في ذلك الوقت،حيث أن الأعمى ظلام والظلام شر والمجذوم هو الشيطان بعينه ومرضى العقول هم أفراد تقمصهم الشيطان والأرواح الشريرة،ولم يقتصر الأمر على سيادة هذه الخرافات بل أن تراث الإغريق وفلسفتهم ونظرتهم للحياة الإجتماعية وقوانين (ليكورجوس) الإسبرطي و(سولون) الأثيني كانت تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمي،كما وأعلن (افلاطون) و(أرسطو) موافقتهما على مثل هذا العمل لأنهم فئة تشكل عبئا على المجتمع.
فأفلاطون وعندما أراد أن ينشئ في مدينة أثينا جمهوريته الفاضلة،كتب أن وجود المعاقين وتناسلهم يؤديان إلى إضعاف الدولة التي يريدها،لذلك دعا إلى إبعاد المعاقين ونفيهم خارج البلاد حتى لا يبقى في الدولة إلا الأذكياء والقادرين على الإنتاج أو الدفاع عنها أو حكمها،علماً أن ذلك يستوجب برأيه أرستقراطيه العقل وصحة الجسم.
أما في إسبارطة فقد طغى على أهلها الإتجاه إلى إعتبار الأطفال من ضعاف الأجسام غير صالحين للقيام بأي عمل،ولذلك عمدوا إلى حمل كل طفل بعد مولده إلى مكان خاص يتم فيه فحصه من قبل شيخ القبيلة وأكبر أفراد القبيلة سنا،فإذا وجدوه قوي الجسم متناسق العضلات والتكوين أمروا بتربيته وتعليمه،أما في حالة ضعف الطفل وسوء تكوينه أو إعاقته فقد كان يلقى به إلى مكان سحيق بقاع الجبل نظراً لأنه يمثل عبئاً على نفسه وغيره ولأن الآلهة قد حرمته من القوه وجمال التكوين.
هكذا وفي بلاد الرومان كلها كانت التقاليد الدينية تقضي بوضع الطفل عقب ولادته عند قدمي والده فإن رفعه إلى صدره أصبح فردا من الأسرة،وإن لم يفعل والسبب يكون في الغالب وجود إعاقة ظاهرة،يترك في وسط الطريق ليلقى مصيره المجهول أو يتم التخلص منه عن طريق إلقائه في الأنهار أو تركه على قمم الجبال ليموت من خلال الظروف المناخية القاسية.
أما في العصور الوسطى فكانت هناك نظرة خوف من المعاقين،وذلك لإعتقادهم بأن الآلهة أحلت اللعنة عليهم،ولهذا كانت الكنيسة تصدر أحكاماً على المتخلفين عقلياً (لإتصالهم بالشيطان) بسجنهم وتكبيلهم وتعذيبهم بشتى ألوان العذاب لعل الشيطان يهرب ويترك هذا الجسد المعذب،وتوضيحاً لذلك يذكر أنه كان يحجر على المجنون في نوع من السجن الإصلاحي كنوع من العقاب على جنونه وضمن شروط تفتقر إلى الحد الادنى من المستلزمات الصحية،حتى أنه كانت تغرق المستشفيات في الشتاء من مياه المجارير الفائضة وأن الكثير من المرضى كانوا يموتون وأثار الجرذان القارضة بادية على وجوههم وأيديهم وأرجلهم.
هذا وفي العصر الجاهلي (قبل الإسلام) كان يتم طرد ذوي العاهات خارج المدينة ورميهم بالحجارة حتى الموت،إلى أن جاء الإسلام وإهتم بهذا الفئة الخاصة إهتماماً كبيراً وتناول طرق الوقاية من الإعاقة،كما حدد إطاراً عاماً لكيفية التعامل معهم وأعطاهم حقوقاً فيها نوع من المراعاة لهم بسبب ما يعانونه من أوضاع تختلف عن غيرهم من الناس العاديين، حيث تناول القرآن الكريم هذا الموضوع في بعض آياته،كما وتناوله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أحاديثه.
أما في العصر الحديث فإننا نجد أن أوروبا كانت السباقة في موضوع رعاية المعاقين،ففي فرنسا ومن القرن الثامن عشر بدأ الإهتمام بتربية الأطفال المعوقين يأخذ مجراه،بحيث وجهت العناية أولا إلى ذوي العاهات الحسيه وثانياً إلى سائر المعوقين،وذلك بغية الوصول بهم إلى درجة ولو بسيطة من المستوى العقلي تمكنهم من خدمة أنفسهم وتسير شئونهم الخاصة.
ولكن من جهة أخرى يشير (ديفيد ورنر) إلى أنه إلى جانب النظرية التطورية المعروفة لـ (داروين) عن البقاء للأصلح ومبدأ الإنتقاء والإنتخاب الطبيعي،فإننا نجد (هيربرت سبنسر) قد نادى بصراحة بإبطال تقديم المساعدة عمدا لفئات العجزة وغيرهم،لأن تلك الفئات الكسيحة في رأيه تثقل كاهل الطبقة النشطة بأثقال لا نظير ولا مبرر لها.
كما خرجت في ألمانيا فلسفات عنصرية متعالية (نازية) أطلق عليها فلسفة القوة والتي تزعمها (هيجل)،وفحواها أن المجتمع لا ينمو إلا في ظل القوة وما أسطورة الديموقراطية والإشتراكية إلا دعوة إلى سيادة طوائف وفئات متوسطة أو غير قادرة على تولي شؤون المجتمع بما يضر بصالح هذا المجتمع إضراراً بالغاً،كما وأن أصحاب العاهات هم فئة طفيلية وعبء على المجتمع وإن إتسمت بالمسالمة والسلبية ولا تبغي للمجتمع ضرراً،لكن ومع مرور الزمن في ألمانيا وبعد أن كانت تعمل على التخلص من الأشخاص المعوقين في العهد النازي،بدأت تهتم بهذه الفئة بعد الحرب العالمية الثانية،بحيث أنشات لهم الكثير من المدارس الخاصة للتعامل مع إحتياجاتهم.
أما في الولايات المتحدة فقد جاء الإهتمام بهذه الفئة متاخراً نسبياً،حيث نص قانون الأمن القومي لعام 1935م والذي عدل في عام 1939م على أهمية تقديم خدمات طبية وتأهلية لما بعد العلاج للمعاقين جسدياً، مما أفسح المجال لولايات كثيرة على سن تشريعات خاصة بالأطفال المعاقين وغيرهم.
وأخيراً نستخلص من كل ما سبق أن هناك مجتمعات نبذت هذه الفئة وحاولت التخلص منها في حين وجدت مجتمعات آخرى ساعدت هؤلاء الأشخاص وعملت على حمايتهم عن طريق معاملتهم على قدم المساواة مع نظائرهم الأسوياء.
رابط المقال
في موقع الميادين: