تغيير النهج هو الهدف في الأردن
شهدت الأردن مؤخرا احتجاجات واسعة امتدت إلى كافة محافظات المملكة،
وذلك تنديدا بمشروعي قانون ضريبة الدخل ونظام الخدمة المدنية اللذان كان مقررا
إيجازهما من قبل الحكومة، لكن السبب الحقيقي في الغضب الجماهيري لا يتعلق بالضرائب
فقط، وإنما بشيء أشمل من ذلك وهي فكرة أن تتنصل الدولة من التزاماتها تجاه الشعب بموجب
العقد الاجتماعي دون أن تقدم شيئا في المقابل، فالمشكلة الأساسية تتمثل في النهج
لا في الأشخاص، وفي السياسات والمؤسسات لا في الشخصيات، إضافة إلى عدم وجود قيادة
وبرنامج بمستوى وعي الناس لترجمة خطط العمل البناءة والمثمرة مستقبلا، فكانت
الكلمة للناس في الشارع وهم الذين تعبوا من الوعود والتسويف وتدوير الوجوه وتغيير الكراسي،
حيث أن الشخصيات القيادية مازالت قابلة للمساومة والتذبذب والبيع والشراء، لهذا
أصبحت حتى المساعدات والمعونات على شكل مشاريع تنموية، وذلك بسبب الشك المشروع في
أمانتنا من حيث المعاملات النقدية، فالممويلين أصبحوا لا يثقون بإرسال أموال لا
يعرفون أين تصرف، لذلك جاءت هذه المشاريع مرفقة بفواتير واضحة تدفع، لأننا لم نحسن
أبدا التصرف في النقد الذي كان يأتينا.
هذا وكشف الإضراب العام الأخير في الأردن عن التكلفة التي يتكبدها
الأردن جراء تراجع دوره على المستوى الإقليمي، حيث كانت المساعدات الخارجية
تقليديا هي الحبل السري الذي يحافظ على حالة اليسر المالي وعلى قدرة البلد على
الوفاء بسداد ما عليه من ديون، فعلى الرغم من أن الاقتصاد الضعيف قد لا يتمكن
إطلاقا من إيجاد ما يكفي من الوظائف إلا أن المال القادم من الخارج كان يمكن
الحكومة على الأقل من توفير الدعم السخي وتجنب جبي معظم الضرائب على الدخل من
أفراد الشعب.
وبينما يستمر الدعم الأمريكي حتى هذه اللحظة دون تغيير، إلا أن تهميش
الأردن من قبل دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية والذي تجلى في رفض الأخيرة تحديدا
تجديد برنامج المساعدة الذي تعهد به مجلس التعاون الخليجي لخمسة أعوام، وهي
المساعدة التي مكنت الأردن من الوقوف على قدميه حتى عام 2017 م، وجراء ذلك وجد
الأردن نفسه مثقلا بالأعباء الناجمة عن وجود عدد كبير من اللاجئين على أراضيه،
بينما يحرم من مساعدات جديدة من المانحين ويتعرض في الوقت ذاته لضغوط صندوق النقد
الدولي الذي يلزمه بتقليص ديونه المهولة التي تكاد تعادل في حجمها ناتجه المحلي
الإجمالي، وكانت نتيجة هذا كله اللجوء إلى التقشف المالي، حيث لجأت الحكومة
الأردنية إلى وقف الدعم عن كثير من السلع وإلى التشدد في نظام الضرائب، مما أدى في
النهاية إلى موجة غضب شعبي في البلاد لم تشهده بهذا المستوى منذ انطلاق الربيع
العربي.
يعد الأردن بسبب اقتصاده الضعيف وجهة أساسية للمساعدات الأجنبية وقروض
المؤسسات الدولية وأموال الحلفاء، واعتماد الأردن على المساعدات والمنح والقروض سمح
لدول مجلس التعاون الخليجي، بدفع الأردن إلى الاصطفاف بشكل علني وأكبر مع سياساتها
الخارجية المعارضة، وعلى الرغم من توقعات حصول الأردن على وعود بالمساعدات من
الحلفاء التقليديين على المدى القريب، إلا ان الحل لن يكون سوى بإصلاح اقتصاد
المملكة الذي يعاني خللا واضحا وهيكليا.
ما جري ليس حراكا (ربيعيا)، فهو ليس مخترقا من السفارات الغربية والعربية،
وهو ليس مدعوما من قنوات (الجزيرة) و(العربية) وأخواتهما، لكنه حراك شعبي حقيقي
يطالب بإيقاف نهج الجباية والسرقة والتغول على قوت الناس ولقمة عيشهم، وهو حراك موجه
للمؤسسات الاقتصادية الدولية أي صندوق النقد الدولي وإملاءاته، وهو حراك وطني توحد
فيه الأردنيون من كل الخلفيات ضد النهج، فالشعب الذي خرج بهذه الحالة الحضارية
المتقدمة جدا، والتي ستتحدث عنها أجيال إلى الأمام يستحق عملية اصلاحية شاملة، فقد
تبين قطعا أنه ليس غوغائيا ولا همجيا كما أنشؤونا وعلمونا ونبهونا عند كل مطالبة
بالاصلاح.
الحراك الأخير كان مختلف عن كل الحراكات السابقة، لأنه كان شعبي صرف وبلا
قيادة سياسية أو حزبية، ولأن ميدانه العاصمة عمان ومعظم المشاركين فيه من أبناء
الطبقة الوسطى الذين يحملون شهادات ومن خلفيات اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوعة،
وما جرى يعتبر خطوة بالاتجاه الصحيح، والأردنيون أثبتوا أنهم يدركون أن مواجهتهم
هي مع صندوق النقد الدولي، لا مع شخص الملقي، ووعي الشارع أن تغيير الحكومة لا
يعني شيئا، وأن المطلوب هو إيقاف نهج الجباية والنهب ومحاكمة الفاسدين واسترداد
أموال الشعب.
خلاصة المشهد تقول أن الانطلاق نحو المحطة التالية في الاصلاح والتغيير
في الأردن يتطلب التوثق أولا من وجود يقين داخل مراكز القرار العميقة بالخوض في
ملف الإصلاح حقا لا قولا، وعلى اساس القناعة واليقين وليس التمرير والتنفيس والتكتيك،
كما لا بد من التأكد من نوايا التضامن المفاجئ في المحور الخليجي وبعض المؤسسات
الدولية وأنه يخلو من الغرض السياسي.
والاصلاح الحقيقي كما نفهمه حقا يتلخص في رفع يد الأجهزة الأمنية عن الحياة الحزبية والسياسية في البلد، واطلاق حملة قانونية وأمنية تستهدف أيدي الفاسدين والزج بهم في السجون واسترداد الأموال المنهوبة، إضافة إلى حل مجلس النواب الذي أثبتت الرؤيا أنه يمثل مرتع الفساد الرئيسي، لأنه نتاج قانون انتخاب جاءت به السلطة، والتمهيد لانتخابات برلمانية حقيقية، على أن تشكل الحكومة بالتوافق من داخل الكتل البرلمانية.