قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تعامل المجتمع الإسلامي مع الضعفاء من المرضى

تعامل المجتمع الإسلامي مع الضعفاء من المرضى

لقد تميز المجتمع الإسلامي على طول تاريخه بنظرته الإيجابية إلى الضعفاء من المرضى بمختلف أشكالهم وأنواعهم، بحيث خصص لهم من يساعدهم على التداوي (العلاج) والحركة والتنقل، كما وأنشئ لهم بيوت خاصة ودور الرعاية والمستشفيات، فالمسلمون ملزمون دينيا بالتعامل مع هؤلاء الأشخاص (المرضى) على قاعدة من التضامن والتكافل والمساعدة، هذا وعبر التاريخ سوف يجد القاريء صفحات مشرقة من اهتمام الخلفاء المسلمين بهذه الفئة الضعيفة وفي مختلف العصور والأزمان.

 

فالتقاليد الإسلامية العظيمة تنص على العناية والرعاية بجميع الفئات المحتاجة، والحرص على معاملة هؤلاء الأفراد بكل ما يستحقونه من رعاية واهتمام، بل ونادى الإسلام بمبدأ هام لم ينتبه إليه العالم إلا بعد أكثر من أربعة قرون على ظهور الإسلام، وهو تقرير حق هؤلاء الأفراد الضعفاء في أموال الناس وأموال بيت المال، وتقرير واجب الدولة في مدّ يد العون والرعاية لهم.

 

فالخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، منع التسول للمرضى وفرض لذوي العاهات راتبا من بيت المال، وذلك حماية لهم من ذلّ السؤال، كما وضع الإمام (أبو حنيفة) تشريعا يقضي بأن بيت مال المسلمين مسؤول عن النفقة على ذوي الاحتياجات الخاصة، وأكبر دليل على الاهتمام البالغ للعهد الإسـلامي بأمور ذوي الاحتياجات الخاصة هؤلاء وتوفير الخدمات الطبية والإجتماعية لهم، أن الخليفة الأموي (عمر بن عبدالعزيز) أمر بإجراء إحصاء لهم وللمرضى عموما، وتخصيص قائد لكل كفيف، وخادم لكل مقعد لا يقوى على القيام وقوفا، وذلك لـ (أداء الصلاة وقوفا).

 

هذا وقد ذكر (محمد بن جرير الطبري) في كتابه (تاريخ الرسل والملوك)، أن الخليفة الأموي (الوليد بن عبدالملك) هو أول من أنشأ بيمارستان (مستشفى) بمعناه الصحيح في الإسلام، فجعل فيه الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، كما وأمر بحبس المجذومين في مكان محدد لئلا يخرجوا وينشروا العدوى، وقال لهم: (لا تسألوا الناس)، وأغناهم عن سؤال الناس حاجاتهم ومتطلباتهم، بحيث أوقف عليهم بلدا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق، وأعطى كل مقعد أو كسيح خادما وكل ضرير قائدا يقوده، هذا ولمّا ولى (الوليد إسحاق بن قبيصة الخزاعي) ديوان الزَمنى (المرضى) بدمشق قال: (لأدعّن الزَمن أحب إلى أهله من الصحيح)، وكان يؤتى بالزّمن حتى يوضع في يده الصدقة.

 

وهكذا تأسست دور وبيوت خاصة (ملاجئ) للمرضى عموما وذوي الإعاقات والمجانين والمعتوهين في أوائل التاريخ الإسلامي، خاصة في عهد الخلافة الأموية، حيث أنشأ الخليفة (المأمون) مأوى للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبرى، وذلك لأن المسلمين كانوا يعتبرون هؤلاء معدمين وعالة على الدولة، ولأن إصابتهم بقضاء الله وقدره، فقد تحملت الدولة أعباء حاجاتهم وعاملتهم برفق، وعينت لهم الأطباء لخدمتهم والسهر على راحتهم، وقد وجد أحد هذه الملاجئ في (دير حزقيال) بين مدتني واسط وبغداد في العراق، وكان (المبرد) يتفقده طوال حكم الخليفة (المتوكل).

 

كذلك سلاطين العصر المملوكي كانوا يشيدون البيمارستانات الخاصة لعلاج المعوقين والمرضى سواء تم شفاؤهم أو تعثر، وكانوا يمنحون المال اللازم لمواجهة نفقات الحياة، وقد كان السلطان (قلاوون) في مقدمة هؤلاء السلاطين الذين شيدوا المؤسسات العلاجية للمرضى، هذا ويذكر أن (أحمد بن طولون) في مصر كان يركب بنفسه كل يوم جمعة ويتفقد البيمارستان (المستشفى) المعروف باسمه (بيمارستان طولون)، ويلتقي بالأطباء وينظر إلى المرضى والمحبوسين من المجانين، كما وقد جاء في صك الأوقاف التي حبس ريعها لصالح (البيمارستان النوري أو العتيق) بمدينة حلب في سوريا، أن كل مجنون يخص بخادمين ينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثيابا نظيفة، ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه قراءة القرآن على قارئ حسن الصوت، ثم يفسحانه في الهواء الطلق.

 

أما الأوقاف فقد كانت شامة جميلة في جبين تشريعات الإسلام، وقد تعددت صور الأوقاف وتنوعت منافعها إلى العديد من الأحوال والصور، حتى بلغت ما لا يخطر على بال إنسان أن يفعله في شرق ولا غرب، ويقول الدكتور محمد البلتاجي: (ولقد تعددت صور الأوقاف، حيث عرفنا منها في تاريخنا أكثر من ثلاثين مظهرا من مظاهر التكافل الإجتماعي في العالم الإسلامي منها: مؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم)، كما إن جزءا مقدّرا من ريع الأوقاف الإسلامية كان يصرف على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين والمسجونين ليعيشوا فيها، أي الدور المخصصة لهم، بحيث يجدوا فيها السكن والغذاء واللباس والتعليم والمعالجة، وقد كانت الأوقاف عموما بابا مفتوحا لمن أراد من الأفراد أو المؤسسات أن يلج من خلاله لمرضاة الله تعالى واكتساب الثواب، وادخال السرور والراحة إلى نفوس هذه الفئة الخاصة في هذا المجتمع الإسلامي، فهم كانوا الأولى من غيرهم في أن تخصص لهم مرافق تقضي لهم متطلباتهم بسهولة ويسر.

 

هذا ولم يتقصر هذا الاهتمام على الحكام فقط، بل إن الأدباء والكتّاب ألّفوا عن هذه الفئة كتبا تتحدث عنهم وعن صفاتهم ومآثرهم، ومن هذه الكتب: (كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، تأليف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ) – (كتاب أصحاب العاهات، تأليف الهيثم بن عدي) - (كتاب نكت الهيمان في نكت العميان، تأليف صلاح الدين الصفدي) – (كتاب الشعور بالعور، تأليف صلاح الدين الصفدي) – (كتاب المعارف، تأليف إبن قتيبة)، بل وكتب كثير من علماء المسلمين عن المعاقين، مما يدل على إهتمامهم بهم مثل: (كتاب درجات فقدان السمع، تأليف الرازي) – (كتاب أسباب حدوث الصمم، تأليف وشرح إبن سينا)، ومن يطلع على هذه الكتب وغيرها يدرك سعة أفق أصحابها في نظرهم وتناولهم لموضوع ذوي الإحتياجات الخاصة.

 

وأخيرا نقول لقد خرج من هؤلاء المرضى كما يقال عموما، قادة وعلماء ومصلحين وفلاسفة وشعراء وأطباء وأدباء أكثر مما نتصور، ونذكر هنا بعضا منهم على سبيل المثال لا الحصر: أبان بن عثمان (كان لديه ضعف في السمع ومع هذا كان عالما فقيها) - محمد بن سيرين (كان ذو صعوبة سمع شديدة ومع هذا كان راويا للحديث ومعبرا للرؤى) - دعبل الخزاعي - القاضي عبده السليماني - عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - حاتم الأصم - سليمان بن مهران الأعمش - أبو العباس الأصم - الأحنف بن قيس – عمران بن الحصين – الكميت بن زيد الأسدي – سليمان بن عبدالملك – سلمة بن دينار – الإمام الترمذي – أبوالعلاء المعري – إبن سيده – الزمخشري – إبن منظور...، ويلاحظ أن إعاقات هؤولاء متنوعة، فقد كان منهم: (الأعمى والأصم والأعرج والأعشى والأعور والأحول والأحنف والأحدب والمفلوج والمبتور...)، وإنهم برزوا في مجالات متنوعة منها: (العلم - الفقه - التفسير - الأحاديث الشريفة - الأدب - الشعر - الخطابة والقضاء - الحكم والخلافة...)، كما امتازوا جميعهم بأخلاق رفعت من درجتهم وإحترام الناس لهم، فقد كانوا من العقلاء والأبطال وأصحاب السيادة والحلم والحزم والمروءة والصبر على البلاء والورع والتواضع.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart