معاهدة وادي عربة مشروع للفتنة في الأردن
عبرت معاهدة وادي عربة عن أفق التعاون بين الأردن وإسرائيل وعن حلف سياسي واصطفاف إقليمي، رسخ التبعية لا للإمبريالية الأمريكية فحسب، بل للكيان الصهيوني نفسه، فالأمر المطلوب كان ليس مجرد سلام أو تطبيع أو إلغاء لحالة العداء كما نصت المعاهدة، بل أن السلام والتطبيع وغيرها تهدف كلها لإلحاق الأردن بالمشروع الإقليمي الصهيوني، فقد تم التعهد في معاهدة وادي عربة على إلغاء حالة العداء بين الأردن وإسرائيل والعمل على منع التحريض ضدها، واعتبار منع التحريض وحماية أمن إسرائيل مسؤولية قانونية للدولة الأردنية، بالإضافة إلى منع أي طرف معاد للكيان الصهيوني، سواء كان فردا أو تنظيما أو دولة من تهديد أو الإضرار بإسرائيل إنطلاقا من الأراضي الأردنية بأي شكل من الأشكال (المادة الحادية عشرة)، وعدم التحالف مع أي طرف ثالث أو السماح له باستخدام الأراضي الأردنية لتهديد إسرائيل، وهكذا نرى أن الأردن الرسمي وحسب المعاهدة أصبح ملزما بالتعاون ضد أي شكل من أشكال العداء لإسرائيل، وأن كل من يدعو أو يعمل لتحرير فلسطين يصبح فورا متهما بالإرهاب وفقا للاتفاقية ومن الواجب مكافحته ومحاربته، وهو ما أخرج الأردن فعليا من أي التزام تجاه محيطه الشعبي الداخلي والعربي والإسلامي، خاصة وأن (المادة الخامسة والعشرين) من معاهدة وادي عربة تنص على أولويتها على أية معاهدة أو اتفاقية أخرى تتعارض معها وتسمو عليها.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزه لما هو أخطر فـ (المادة الثامنة) من المعاهدة تدعو حرفيا للسعي والعمل على توطين اللاجئين الفلسطينيين سياسيا في الأردن، ولو لم يعني ذلك (دولة فلسطينية) شرق النهر، إلا أنه يصدر أزمة الكيان الصهيوني وأحد أهم جوانب أزمة ما يسمى بـ (عملية السلام) إلى الأردن.
لهذا فإن تجاهل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من قبل دعاة الإصلاح الدستوري والديموقراطي في الأردن (الإصلاحات المحلية)، هو تجاهل خطير لأنه بدل أن يكون المشروع الإصلاحي الديموقراطي الدستوري أردنيا بحت، أصبح بعد تصدير الكيان الصهيوني لمشكلة اللاجئين للأردن على حساب القضية الفلسطينية نفسها وعلى حساب الأردن نفسه، لأن الديموقراطية هنا ستصبح تنافسا أردنيا فلسطينيا على المواقع والمناصب، والأسوأ أن مثل هذا التوجه يحول مشروع الإصلاح في الأردن (المفتقد للبعد الوطني والقومي) إن وجد الآن أو مستقبلا إلى مدخل للفتنة وللحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، وهو ما يمثل المعادل الدموي الأردني للصراع الطائفي والإثني الحاصل في محيطنا العربي.
فالقضية هنا ليست قضية إصلاحات ديموقراطية أو دستورية فحسب، بل قضية تغيير جذري في النهج، لأن الوسيلة والطريقة الصحيحة والوحيدة لحماية السلم الأهلي في الأردن تكون بإعادة توجيه البوصلة باتجاه العدو الصهيوني لحماية الأردن وتحقيق العودة، وذلك كأساس لأي مشروع تغيير حقيقي لا يعيد إنتاج التبعية، لهذا نقول أن دعاة إسقاط معاهدة وادي عربة هم دعاة الوحدة الوطنية الفعليون والحقيقيون في الأردن، لأنهم وحدهم من يضعون أساسا سليما للعلاقة الأردنية الفلسطينية في مواجهة الخطر الصهيوني.
كما أن دعاة الإصلاح الدستوري والديموقراطي في الأردن، ممن يتجاهلون التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني أو ممن يعطونه أهمية ثانوية، ينسون التاريخ المعاصر للنظام السياسي في الأردن، حيث يذكر أنه تم تمرير (معاهدة وادي عربة) نتيجة للتدهور الديموقراطي في البلاد وقوننة الأحكام العرفية، وأبرزها إقرار قانون الصوت الواحد الذي تم سنه خصيصا لتمرير استحقاقات معاهدة وادي عربة ولتكريس نهج التبعية، مما أدى لإنتاج مجالس نواب هزيلة (مجالس نيابية خدماتية فقط) لا مجالس نواب وطن وأمة، كما أصبح تزوير الانتخابات النيابية على نطاق واسع جزءا لا يتجزأ من الديكور الديموقراطي الأردني في ظل وادي عربة.
هذا وقد جاء تغول الجهاز التنفيذي والأجهزة الأمنية في البلاد تحديدا لفرض نهج وادي عربة، كما جاء تمرير القوانين المؤقتة بالمئات في ظل الحكومات المتعاقبة خارج أي رقابة تشريعية ضمن نفس السياق، ومن أبرزها قانون الاجتماعات العامة لمنع الاحتجاجات والمظاهرات، وقانون الأحزاب لإجهاض القوى المنظمة وطنيا، وقانون المطبوعات المعدل الذي يحاسب الصحفي على المساس بالشأن الأمني أو الاقتصادي، وقانون مراقبة البريد والهاتف الذي يتيحها بقرار إداري (لا بقرار قضائي فحسب كما نص الدستور)، وقانون محكمة أمن الدولة الذي يوسع صلاحياتها بما يشمل الكثير من صلاحيات القضاء المدني، وغيرها من القوانين والممارسات التي كرست نفس النهج والعقلية.
فإذا كانت (اتفاقية كامب ديفيد) قد أخرجت مصر الرسمية من حلبة الصراع العربي الصهيوني، فقد تحولت (معاهدة وادي عربة) إلى نهج ومسار وحتى أنموذج جديد وحديث، لتعميمه إقليميا انطلاقا من الأردن، وذلك من خلال مشروع (الشرق أوسطية) الذي أكثر ما عبرت عنه مؤتمرات دافوس المنعقدة سنويا في المنطقة، بحيث يتضمن إلحاق المنطقة بالعولمة وخط الشركات متعدية الحدود (متعددة الجنسيات) من جهة، والعمل على دمج الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة الاقتصادي والسياسي والثقافي (التطبيع).
فمنطق العولمة هذا هو الذي أدى إلى بيع القطاع العام الأردني للشركات الأجنبية بأبخس الأثمان، وهو الذي حكم المسيرة الاقتصادية الاجتماعية الأردنية منذ وضعت البلاد تحت وصاية المؤسسات الاقتصادية الدولية في نهاية الثمانينيات، وهو الذي أدى إلى تسيد وطغيان شريحة صغيرة في النظام السياسي الأردني نتيجة الثروات الضخمة التي أنتجها الفساد، كما أنه أيضا المنطق الذي أدى إلى رفع الضرائب والرسوم على أوسع الشرائح الشعبية (عامة الشعب)، وتخفيضها على الشركات الكبرى الأجنبية والبنوك، وهو بذلك الأساس الذي كرس تبعية الأردن الاقتصادية للخارج، وأنتج الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تعانيها البلاد اليوم، إذ لا يمكن أن تستفيد معظم شرائح الشعب بأية حال من مشروع تبعية للطرف الأمريكي والصهيوني في أي مكان من العالم وليس في الأردن فحسب.
كما أن نهج التبعية الاقتصادية هذا الذي سوقته الشريحة الاجتماعية المستفيدة منه هو نفسه نهج وادي عربة، فالسياسة الداخلية والخارجية هنا وجهان لعملة واحدة، وبالتالي فإن التخلص من التبعية الاقتصادية يقتضي التخلص من سياسات الشريحة التي فرضت موقفها ورؤيتها في قضية التعامل مع إسرائيل من خلال مشروع الشرق أوسطية، وهو مشروع جغرافي سياسي (تفكيك الدول العربية إلى أجزاء، على خطوط طائفية وأثنية)، ومشروع ثقافي (محو الهوية العربية الإسلامية المشتركة لبلادنا لتحويلها إلى جغرافيا بلا تاريخ)، والذين لا يمانعون ذلك فهم من الذين يحظون بحصة أكبر في السلطة والمال والساعون إليهما دون الأخذ بأي إعتبارات أو محرمات، لهذا فإن مشاريعهم لا وطنية ولا أردنية ولا فلسطينية ولا إسلامية ولا ديمقراطية بل أمريكية صهيونية في النهاية.
المشروع الديموقراطي
الأردني لا يمكن أن يجد مداه الحيوي في ظل شروط التبعية للإمبريالية والصهيونية،
كما أن الاستحقاقات القانونية للمعاهدة، وللعلاقة مع الطرف الأمريكي الصهيوني،
ستفرغ أي مشروع ديموقراطي من مضمونه، وستحول الديموقراطية إلى ديكور انتخابي
لاستعباد الوطن ما دام مكبلا بالقيود السياسية والقانونية وشروطها إضافة إلى
المساعدات الإقتصادية، فلا حرية ولا ديمقراطية في البلاد المستعبدة للخارج،
والتحول الديمقراطي في الأردن يقتضي التخلص من هذه المعاهدة، ومشاريع التحول
الديمقراطي التي تدفع الولايات المتحدة باتجاهها تأتي ضمن هذا السياق لتكريس
التبعية على قاعدة احترام المعاهدات الدولية وما شابه.
رابط المقال في مجلة تحت المجهر: