قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الموت هو اليقين حقا

الموت هو اليقين حقا
نحن كبشر معرضين لثلاث انهيارات لا مهرب منها: (المرض والشيخوخة والموت)، لكن الإنسان بطبعه مجبول على حب الخلود، وقد استغل إبليس هذه الحقيقة في إغراء آدم بالأكل من الشجرة، حيث قال الله تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) (طه 120)، أما الموت فيبدو أنه نهاية المطاف ولا مهرب منه، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، والموت هو قدرنا في النهاية، والمؤمن يكره الموت ويحب الحياة ليزداد عمله الصالح، فالحياة فرصة لا تعوض، لأنه سوف يبني عليها حياة أبدية (الآخرة).

فالموت نراه بيننا كما نرى الحياة حقا لا شك فيه ولا مراء، وحقيقة قد أقر بها كل الخلق وخضع بها كل الجبابرة واستذل بها كل متكبر عنيد، فقد قضاها الله سبحانه على كل من في الأرض، ليعلموا قدر ضعفهم وانعدام حولهم وزوال قدرتهم، وليعلموا عظمة ربهم وقدرته وقيوميته سبحانه، والموت مصيبة لابد منها، تراها وتبتلى بها فيمن تحب، ثم تبتلى بها في نفسك، فإن عشت تفجع بالأحبة كلهم ولفقد نفسك لا أبالك أفجع، فكل يوم يفجعنا الموت بفجيعته، فتبكي العيون وترتجف القلوب، ويستشعر كل منا قرب لحظة النهاية، وهذا المشهد نراه من حولنا يتكرر بصورة متتابعة، فلا الرحيل انتهى، ولا نحن تذكرنا وتدبرنا.

الموت هو اليقين حقا، وإن أعرض الناس عنه وحادوا، والحياة الدنيا دار البلاء والإختبار والعمل لما بعد الموت، فالموت ليس فناء كما يعتقد الجاهلون، بل هو انتقال من دار إلى دار، وبرزخ يفصل بين حياتين: حياة الإختبار والإبتلاء، وحياة الجزاء والبقاء، والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وإن آثر أكثر الناس الحياة الدنيا، فالموت حق لا يعرض عن ذكره إلا غافل، ولا يفر منه إلا جاهل، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره والإستعداد له، ففي ذكر الموت فوائد عظيمة، فهو أدعى لقصر الأمل في الدنيا والزهد في زخارفها، والحرص على العمل الصالح وإحسانه، ومحاسبة النفس على ما فعلت، والمبادرة للتوبة النصوح، وأداء الحقوق إلى أصحابها، كما أنه يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي، وذكر الموت في كل حال أدعى لصلاح الحال، والموت راحة للمؤمن من تعب الدنيا ونصبها، ونهاية سعيدة لهذا الإبتلاء الذي عاناه فيها، أما الكافر فبالموت يبدأ شقاؤه وعناؤه والعياذ بالله، لهذا فإن كثيرا من البشر يكرهون الموت، والسبب في هذه الكراهية هو خوف هؤلاء من دخول النار بسبب ما فعلوه في حياتهم من ذنوب، ولذا تجدهم يتمنون لو عاش أحدهم ألف سنة، حيث قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (البقرة 96).

هذا وإن البلاء الذي يتعرض له المؤمن قبل موته يكفر عنه ذنوبه ويرفع درجته، حيث قال رسول الله ﷺ: (ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه)، كما وجاء في الحديث القدسي: (إذا ابتلى الله عز وجل العبد المسلم ببلاء في جسده، قال الله عز وجل للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، وإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه)، ولأجل ذلك أيضا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة، هي التي تكون عند النزع الأخير حيث لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أعد له، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم، كما ويحب الله لقاءهم ليجزل لهم العطاء والخير، أما أهل الشقاوة فيكرهون لقاء الله تعالى لما عملوا من سوء في حياتهم ولما سينتقلون إليه من عذاب وبعد عن رحمة الله.

ويعتقد البعض أن للموت علامات تأتي قبله فتدل عليه، والواقع يخبرنا أن الموت يحصد الكل أطفالا وشبابا وشيوخا، كما ويبين الله لنا أن أي مخلوق لابد أن يموت، أي ينتقل من حياة لأخرى وبعد هذا يرجع لجزاء الله، وكل مخلوق لا يموت إلا بأمر من الله تعالى، وهو في موعد محدد يتقدم المخلوق إليه كل يوم حتى يبلغه، وفي أي مكان وصولا للأماكن المحصنة التي يظن الناس أنها تحميهم منه، حيث يقول الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (النساء 78)، وهذا يعني أن لا أحد يعرف مكان موته ولا زمانه، وأن الذي يتوفى هو ملك واحد (ملك الموت) والذي هو موكل بهذه الوظيفة.

هذا ويحكى في حكايات العلامات حكاية طريفة هي: (أن اعتاد أحد الصالحين أن يزوره ملك الموت زيارات ودية، وعندما توثقت العلاقة بينهما، رجا الرجل الصالح زائره أن يخبره عن الزيارة المحددة التي سيجيء فيها قابضا لنفس صاحبه، فوعده بأن يرسل إليه رسولا قبل مجيئه قابضا، وبعد فترة بلغ فيها الرجل الصالح أرذل العمر، جاءه ملك الموت قابضا، فعتب عليه أنه لم يرسل إليه رسولا يخبره بذلك حسب الإتفاق المضروب بينهما، فقال ملك الموت: لقد أرسلت إليك رسلا عدة لا رسولا واحدا، قال صاحبه: ما جاءني أحد ليخبرني، فقال ملك الموت: ابيض شعرك بعد سواد وهذا رسول، وضعفت بنيتك بعد قوة وهذا رسول، وتفرقت أسنانك بعد طول اجتماع وهذا رسول، وعجزت قدماك عن حملك فاتخذت من نبات الأشجار مساعدا وهذا رسول، وقصر نظرك بعد طول وهذا رسول، ثم عقب ملك الموت قائلا: أما كفاك هذه الرسل جميعها وغيرها نذيرا للموت يا صاحبي).

وينقسم الموت عند البشر لنوعين: 

أ- موت الفجاءة: وهو الموت المباغت الذي يأتي الإنسان وهو في تمام الصحة والعافية، 

ب- موت التوقع: وهو الموت المتوقع بسبب وجود سبب من أسباب الموت مثل المرض أو الكبر.

كما أن هناك الموت الذي نسميه طبيعي، وهو موت ليس للإنسان فيه دخل، أما الموت الذي يسمى القتل، وهو موت يكون من عمل الإنسان، ومما ينبغي قوله أن الموت كله فجائي، أي يحدث في وقت مجهول، والموت المتوقع هو أيضا فجائي لعدم العلم بموعده، ولكنه متوقع لوجود أسباب تؤدي للموت في الغالب، ولحكمة بالغة ليس للموت قاعدة، فالموت يأتي فجأة، والقبر صندوق العمل، وما مضى قد فات، فلا تبحث فيه إطلاقا، لأن البحث فيه غباء، والمؤمل (المستقبل) غيب لا تملكه، فلا نملك إلا هذه الساعة، بل هذه اللحظة فقط، ولا تقل غدا، فالنبي الكريم قال لرجل: (ويحك أو ليس الدهر كله غدا).

كما أن الخوف من الموت نوعان: أولهما: مركوز في طبيعة البشر وهذا غير مذموم لأنه خارج عن نطاق التكليف ولا دخل للإنسان في حصوله، وثانيهما: مذموم وهو الوهن المذكور في الحديث بحيث يكون الإنسان حريصا على البقاء في الدنيا متمتعا بشهواتها وملذاتها غافلا عن الآخرة وما يتعلق بها، وكون الموت أكثر راحة من الحياة، إنما ذلك خاص بعباد الله المؤمنين حيث يستريحون من نصب الدنيا وتعبها، أما الكفار والمنافقون ونحوهما فإنهم لا يتعجلون القدوم على ما قدموه من كفر ومعاص، وعقوبتهم حينئذ أشد مما كانوا يعانونه وهم أحياء، وطول العمر خير للمؤمن على كل حال لأنه إن كان محسنا ازداد خيرا، وإن كان مسيئا قد يتوب إلى الله تعالى ويرجع، ولهذا لما سئل رجل أبو ذر رحمه الله: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الأخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب.

الموت نقطة انطلاقة لحياة خالدة فلما نكرهه، والحياة أسطول من الآهات والآلام لا تنتهي إلا بالموت، فمهما طال الزمن وطال وطال فلابد من نهاية، ولكل كائن نهاية واحدة مهما تعددت الأسباب، إن الموت ليس عدما بل هو انتقال من دنيا محدودة إلى عالم واسع غير محدود، بل عالم أكمل من هذا العالم، والسبب الأساسي لخوف الإنسان من الموت هو ضعف الإيمان واليقين القلبي بالله وبيوم القيامة، والنظر إلى الموت على أنه فناء وعدم، كما أن سبب كراهية الموت هو عدم السعي للآخرة، بل عدم الإلتفات إلى الآخرة، فالتوجه المحض إلى الدنيا هو الموجب لخراب الآخرة، وخراب الآخرة سببه الأعمال السيئة والذنوب والمعاصي، لذا يذكر القرآن علة خوف اليهود من الآخرة، حيث قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، فحياتنا الدنيا هي الإقامة المؤقتةُ، والمثوى الأخير معروف، وسيشيع كل واحد منا إلى مثواه الأخير، القضية ليست قضية تشاؤم، وليس قضية سوداوية، لا، فالموت مصير كل إنسان، وكل مخلوق له بداية، وله نهاية، وهو بضعة أيام، وعند الولادة تكثر الخيارات، أما عند الموت فليس من خيارات إلا خيارين، إما جنة وإما نار.

عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart