مشروع الشرق الأوسط التركي
كتاب «العمق الاستراتيجي» لمؤلفه أحمد داوود أوغلو الذي كان مهندس السياسة
الخارجية لحزب العدالة والتنمية، يدرج فيه الكاتب سوريا في تفكير استراتيجي شامل
لمنطقة الشرق الأوسط وطموحات تركيا، فيقول إن: «منطقة الشرق الأوسط تعد ثاني مناطق
الالتقاء المهمة بالنسبة إلى تركيا، باعتبارها الحزام الأدنى لمحاور القوقاز/
الشرق الأوسط / البلقان، وقد أصبحت تركيا مضطرة إلى تطوير سياسة شرق متوسطية
تضم بداخلها أيضا نطاقات مشحونة بالمشكلات، مثل (إيجه وقبرص)، ومضطرة إلى
أن تفكر في هذه السياسة بعيدا عن التوازن العقيم للعلاقات التركية / اليونانية،
كما يجب على هذه السياسية الاعتماد على استراتيجية بحرية تحيط بخط البحر الأسود / المضيقين
/ إيجه / خط الأدرياتيكي / كريت / قبرص / خط السويس / البحر الأحمر / الخليج
العربي الذي يحيط بمركز الشرق الأوسط، وأخيراً خط باكو / قزوين / جيحون، وتتمتع
العلاقات التركية السورية بأهمية خاصة في إطار السياسة الشرق متوسطية وتوازناتها».
يضيف أوغلو: «إن العلاقات بين تركيا وبين كل من اليونان وإسرائيل ومصر وسوريا، بل
وليبيا وإيطاليا ستتطور من الآن فصاعدا باعتبارها جزءا من ذلك المعيار الإقليمي».
تركيا التي ارتأت أن
تعتمد استراتيجية وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو «صفر مشاكل مع الدول المجاورة»، حددت أن أهداف التقارب التركي مع سوريا، هو
أولا بسبب البعد الإقليمي والدولي لتركيا برا وبحرا، وثانيا بالرغبة في الدخول في
عملية السلام «حتى ولو بصفة مراقبة»، حيث لعبت تركيا دورا محوريا في استئناف اللقاءات التفاوضية غير المباشرة بين
سوريا وإسرائيل ابتداء من شهر أيار/مايو عام 2008 في أنقرة، وثالثا بمنع إسرائيل من اللعب بمسألتي المياه
وإرسال السلاح إلى قبرص اليونانية، ورابعا بالالتفاف على خطط روسيا ومنها زرع
صواريخ أس 300 في قبرص.
هذا ويعتبر أوغلو أن: «روسيا تسعى إلى الدفع بشرق المتوسط إلى خارج مناطق
المرور النفطي من خلال خلق أزمة مزمنة عند نقطة نزول خط باكو/ جيحون الذي سيوجه
ضربة لاستراتيجيتها النفطية»، ناهيك طبعا عن الطموحات الاقتصادية الكبيرة التي
يشرحها أوغلو، والتي ستسمح لتركيا بالدخول إلى حلب ودمشق وكل المناطق السورية.
كما قال أردوغان على نحو لا يمكن أن يكون أكثر وضوحا: «يسألوننا عن أسباب
انشغالنا بسوريا، الجواب بسيط للغاية، لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العليَّة
العثمانية، نحن أحفاد السلاجقة، نحن أحفاد العثمانيين، نحن على امتداد التاريخ
أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا من أجل الحق والسلام والسعادة والأخوة... وأن حزب
العدالة والتنمية هو حزب يحمل في جذوره العميقة روح السلاجقة والعثمانيين».
وهكذا نرى أن كل التصريحات الرسمية التركية (أردوغان ومنظّر سياسته
الخارجية أحمد داوود أوغلو) مع بداية الحرب السورية، كانت تصب في خانة إحياء مشروع
عثماني قديم في المنطقة يعم مجمل الدول العربية المجاورة وتقوده تركيا، حيث قال
أوغلو إن: «شرق أوسط جديدا يولد في المنطقة، وفكر هذا الشرق الجديد سترسمه تركيا
التي ستقوده إلى التغيير وفقا لما يريده الأتراك لتركيا نفسها وستكون الناطقة
باسمها، وإن حزب العدالة والتنمية يحلم بإنشاء شرق أوسط قائم على السلام والأخوة
وبعيد عن الطائفية والعرقية والوصاية... وكما نجح في تغيير وجه تركيا خلال 10
سنوات، فإن الحزب سينجح أيضا في تغيير الشرق الأوسط، لأن تركيا باتت قوة تغيير في
المنطقة ومركزا لصناعة القرار والمستقبل».
لقد أمل الأتراك في بدايات الحرب السورية ربما بإقناع الرئيس السوري بتقديم
تنازلات سياسية، فقد كانت تركيا تعتبر أنها قادرة على تزيين مثل هذه التنازلات
للأسد، ومنها على وجه الخصوص توسيع المشاركة السنية وإدخال الإخوان المسلمين في
السلطة، هذا في أسوأ الأحوال، أما في أفضلها بالنسبة إلى تركيا فكان الطموح إلى
قلب النظام بغية إقامة نظام آخر دائر في فلك النهج الإسلامي لحزب العدالة والتنمية
والمنظمة الإخوانية في المنطقة، حيث كانت الأدبيات التركية المعلنة من قبل أردوغان
وأوغلو لا تخفي الرغبة في عودة تركيا إلى زعامة المنطقة.
كان هذا الطموح التركي مفرح للإخوان المسلمين ولقطر ومصر (أيام الرئيس محمد
مرسي) ومقلق لدول عربية كثيرة أخرى بما فيها تلك التي ناصبت الأسد العداء مثل
السعودية والإمارات والكويت وغيرها، وقد تزامن هذا مع التوسع الكبير لجماعة
الإخوان المسلمين في مصر والمغالاة في تولي معظم شؤون السلطة، وهذا الطموح لإخوان
مصر ناقض تماما وعودهم السابقة بأنهم لا يريدون رئيسا للجمهورية منهم، كما تزامن
هذا الموقف التركي أيضا مع تقدم كبير لحركة النهضة التونسية بقيادة الشيخ راشد
الغنوشي (رغم أن الغنوشي غالبا ما يقول أنه ليس إخوانيا وإنما يتفق معهم بالفكر)،
وكذلك مع تولي الإسلامي المغربي عبد الإله بن كيران شؤون الحكومة في المملكة
المغربية (أعقبه د. سعد الدين عثماني في رئاسة الحكومة وهو أيضا من حزب العدالة والتنمية)،
كما وفي تلك الأثناء أيضا كان الإخوان المسلمون في اليمن بقيادة الشيخ القبلي
الحاشدي ورجل الأعمال حميد الأحمر يرفعون مستوى الطموح والتحدي، وفي ليبيا كان
الإسلاميون يقضمون الأرض والسياسة شيئا فشيئا، وفي سوريا كان الإخوان ومناصروهم
يسيطرون على معظم مقاليد الائتلاف المعارض في الخارج، ويلقون ترحيبا وتأييدا في
الدول الغربية التي راحت تستقبل بعض قادتهم كرؤساء الدول.
هنا شعر أردوغان وأوغلو بأن الحلم الإسلامي والحلم العثماني يعيشان أفضل
لحظاتهما، كما تساءل وزير الخارجية التركية في مقابلته مع الكاتب جاكسون ديهيل في
الواشنطن بوست: «إذا كان لدى بريطانيا كومنولث، فما المانع من أن تعيد تركيا بناء
قيادتها داخل الأراضي العثمانية السابقة، مثل البلقان والشرق الأوسط وآسيا
الوسطى؟»، كما دغدغت أردوغان أحلام الدولة العثمانية، حيث أعاد تعليم اللغة
العثمانية وعزف النشيد العثماني (المارش) في القصر الجمهوري بدلا من النشيد التركي،
وذلك للمرة الأولى منذ سقوط الخلافة، حيث قام بذلك في خلال استقبال رئيس أذربيجان،
في كانون الثاني/يناير 2015. وفي الأول من حزيران/يونيو 2015 ولمناسبة الاحتفال
بالذكرى السنوية 562 لفتح القسطنطينية «إسطنبول»، ظهر أردوغان وسط 478 رجلا من
الجيش التركي، كانوا جميعا يرتدون الزي العسكري العثماني، والتي أطلق عليهم اسم
«كتيبة الفتح العثماني»، وانضمت إليهم الفرقة العسكرية العثمانية المعروفة باسم
«مهتر خانة»، المؤلفة من 84 عازفا.
لقد كانت الطموحات التركية إذا تكبر وتستعيد تاريخ حكم كان يسيطر على معظم
دول الجوار، بينما كانت الحرائق العربية تزيد الدول العربية هشاشة، فيبحث كل طرف
عن حليف خارجي، حيث كان الاعتقاد فعلا أن نهاية النظام قريبة وأن الإخوان المسلمين
سيتولون السلطة ويصبحون الأقرب إلى تركيا، وهكذا قرر أردوغان أن نهاية الرئيس بشار
الأسد باتت ضرورية وحتمية الانزلاق إلى المواجهة المباشرة والحرب، لكن كل هذه الحسابات
كانت خاطئة.
سامي كليب